من شظايا الذاكرة
عدد القراءات: 3074

 

 

 

 

فيا قلب كم شردتك الديار

تعالوا، سنرجع، هيا بنا

 

 

احترق دم قلبي وأنا أشاهد الغرباء يسرحون ويمرحون في منزلي بينما اقف حائراً امامه دون التمتع بحق دخوله دون إذن، فكرت ملياً قبل قرع الباب، تذكرت حديقة المنزل وشجرة الليمون التي زرعها جدي هنا قبل عشرات السنين، لا زالت شامخة في الحديقة والى جوارها شجرة البلوط تتدلى أغصانها لتلتحم مع اغصان شجرة الليمون لتواسيها على فقدان الاهل وغربتهم في الشتات، فالاشجار والمنازل تحب وتعشق اهلها وتموت حين يتركها اصحابها، والبيوت تموت حين ُتترك وحيدةً، وقفت امام المنزل، منزلنا، كان بصحبتي شقيقي القادم من الكويت لزيارة الوطن، نزلنا لنشم عبير الذكريات ونستذكر عهداً قريباً أصبح استرجاعه صعب المنال، وقفنا كالمتسولين امام منزلنا بإنتظار تكرّم السكان الجدد بفتح باب المنزل، كررنا هذه الزيارة عدة مرات دون ان ُتتاح لنا فرصة دخول المنزل، انتبه علينا احد الجيران وقال من شرفة المنزل الذي يحتله: لقد شاهدتكم عدة مرات تأتون هنا، ماذا تريدون، هل انتم لصوص تخططون لسرقة المنزل، ضحك شقيقي وهمس في اذني: اللصوص يعتقدون ان جميع الناس مثلهم، لقد سرقوا منازلنا ويعاملوننا معاملة اللصوص، قلت له: هذا منزلنا، فقال لي: اذاً انتم قادمون لتستعيدوا الذكريات! لقد حصلنا على هذه المنازل من الحكومة، انها املاك غائبين، وبينما كان الحوار دائراً بيننا وبين هذا اليهودي العراقي الاصل، ُفتح باب منزلنا وخرجت منه سيدة يهودية عراقية الاصل ايضاً، قلت لها: اننا هنا لنزور بيتنا وهذا شقيقي، لنا الكثير من الذكريات في هذا المنزل، نذكر كل شيء فيه، توجد بعض الرسوم المزخرفة على سقف الغرف واجمل تلك الرسوم اللوحة الفنية الكبيرة المرسومة في غرفة الضيوف وهي عبارة عن رسوم مزخرفة لنباتات متنوعة، شرحت لها شكل المنزل من الداخل، الصالون وسط المنزل، وغرف النوم في الاعلى، بينما توجد غرفة صغيرة خلف المنزل للدجاج والحمام، قالت السيدة: اهلا بكم، انني عراقية من بغداد، ويا ليتني لم آت الى هنا، لعل الله يعيدكم الى منازلكم ويعيدنا الى بغداد، كان السائق الذي معنا من السائقين الذين يعملون على خط عمان بغداد، قال لها: من أي حارة انت من بغداد؟ وبدأ يعد لها حارات بغداد الى ان ذكر اسم حارتها، قالت له بلهجة عراقية: اوقف عيني، هاي حارتنا وعاليوم اللي نرجع على بغداد، احنا طلعنا من بغداد غصب عنا متل ما طلعتو انتو من يافا غصب عنكم، كانوا الحاخامات يغصبونا نهاجر من العراق، أحنّ الى بغداد واسواقها وغنائها وأهلها. فقال لها اخي: ونحن نحن ليافا واسواقها لكن اهلها تشردوا في كل بقاع العالم. دعتنا السيدة لشرب بعض الشاي العراقي وخرجنا من عندها بعد زيارة منزلنا، وبينما نحن نمر في حاكورة منزلنا مددت يدي الى شجرة الليمون وقطفت حبة ليمون فواحة، اعطيتها لأخي وقلت له: شمها، لقد زرعها جدك.

 

كان جدي من الرافضين للخروج من يافا، هاجرنا على أمل العودة اليها، لكنه بقي وحيداً، قبض اليهود عليه حين سقطت يافا، وضعوه على حمار وأعطوه قبقابه الخشبي وأمروه بالتوجه الى اللد ليلحق بعائلته، لكن جدي لم يتوقع ان هذا الخروج نهائي، كان أمله بالعودة الى بيته كبيراً، قام بحفر حفرة صغيرة بجانب احد الجدران ووضع فيها قبقابه الخشبي خوفاً عليه من الضياع، لم يخطر بباله ان يافا كلها ستصبح في عداد المفقودات التاريخية بعد عدة ايام من خروجه، لقد فعل تماماً كما فعلت جدتي التي دفنت ذهبها قرب سياج المنزل في يافا متيقتة ان حمل الذهب والسير به عبر السهول والحقول مخاطرة قد تؤدي الى ضياعه، لذلك فضلت ترك الذهب في أكثر الامكنة أماناً، في حديقة منزلها في حي المنشية بيافا، لم تتوقع أن المنزل سيصبح بعيداً عن ايدينا بعد قليل حين نصبح مهاجرين محرومين من رؤية منازلنا وحين تأتي هذه اليهودية العراقية لتقيم فيه فنصبح نحن الضيوف وتصبح هي صاحبة المنزل.

 

قلت للسيدة اليهودية العراقية التي تسكن منزلنا، لقد كان هناك سورمسيّج لمنزلنا، كانت ابعاده تختلف عن هذا السور الموجود الآن، فقالت لي: لقد قامت البلدية بتوسيع الشارع مما أدى الى قضم جزء من حديقة المنزل وتعديل حدوده، قلت لها لقد قامت جدتي بتخبئة بعض الاشياء في التراب في الجزء الشرقي من الحديقة المحاذي للسور، وكانت جدتي رحمها الله قد اخبرتنا انها وضعت الذهب في ذلك الجزء من الحديقة، فإستأذنت من السيدة اليهودية ان تسمح لي بنبش التراب بحثاً عن الامانة التي وضعتها جدتي، لكنها قالت ان ذلك سيزعجها إذ انها لا ترغب بإعادة ترتيب الحديقة مرة اخرى، لم ترحب هذه السيدة بفكرة بحثنا عن اغراضنا تحت التراب وقالت ان ذلك قد يثير شكوك الجيران وقد يثير لها المتاعب وطلبت منا نسيان الموضوع. حملنا بعضاَ من تراب حديقة المنزل في كيس صغير لنشتم منه رائحة الوطن كلما اشتقنا إليه وأقفلنا عائدين خائبين.

 

خرجنا من عندها وتهنا عن الطريق، لقد غير المحتلون معالم المدينة وشوارعها، ذهبنا لزيارة ما تبقى من البلدة القديمة في يافا، تلك الشوارع المهجورة، تذكرنا كيف كانت تعج بالحياة وكيف كان اقتصادها منتعشاً حين كانت محجة للمثقفين والفنانين، زرنا سينما الحمراء، كانت لا تزال مغلقة بعد عشرين عاماً من الرحيل عنها، ذهبنا الى الشاطىء واستذكرنا شط الشباب الذي كنا نسبح فيه، كان المواطنون يأتون من كل حدب وصوب ليستجموا في يافا ويشاركوا في المباريات الرياضية والمواسم الاجتماعية.

 

شاهدت ما تبقى من المدينة، بقيت مدرستي كما هي، لكن طلابها تغيروا وحل محلهم طلاب وطالبات من ابناء المهاجرين اليهود، شاهدت بعض المقامات التي لا زالت بعيدة عن عبث المستعمرين، لكنهم حولوا احد المساجد الى كنيس ومسجد آخر تم تحويله الى مشغل للنجارة، ومشغل آخر للفواحش والملذات، لا استطيع وصف مشاعري حين مشاهدة مسقط رأسي على هذه الحال، ذهبت الى القرى المحاذية لمدينة يافا، تلك القرى التي كانت تشتهر بزراعة البرتقال في بساتينها وبياراتها، تحول الكثير من اراضي هذه القرى الى حديقة كبيرة للحيوانات تدعى حديقة رامات غان بينما تحول الجزء الآخر الى مكب للنفايات لمدينة تل ابيب ومنطقتها الصناعية. اغمضت عيني ولم ارغب بمشاهدة المزيد. ركبنا سيارة التاكسي وقلت للسائق: هيا بنا نعود لنابلس.

 

كانت جدتي تصرخ بنا حين عزمنا على الرحيل: وين رايحين، بدكم تعمروا بلاد الجبل (الضفة) وتتركوا بلاد السهل (الساحل)؟ هاي ارض وهديك ارض؟ تركنا الارض السهلية الخصبة وجئنا الى الجبل وقسوته.  كانوا الانجليز يطلقون النار على حي المنشية من جهة تل ابيب ويأتون بعدها الى المنشية ليطلقوا النار على تل ابيب من المنشية كلما هدأت الاشتباكات بيننا وبين اليهود، كان للانجليز دور هام في تصعيد العنف المتبادل بيننا وبين اليهود.

 

مكثنا عدة اسابيع في اللد بعدما هاجرنا من يافا، وحين بدأت اللد بالسقوط دخلت عصابات الهاجاناه، كانت لأخي سيارة شحن واقفة باب المنزل الذي كنا نسكن فيه، أحضر اليهود ونشاً وبدأوا بسحبه، غضب أخي الذي كان قد انجز صيانة الشحن قبل ايام قليلة من الهجرة بعد احراقه، دخل الى المطبخ وحمل سكيناً كبيرة واندفع باتجاه باب المنزل لكن والدتي وقفت خلف الباب ومنعته قائلةً: بالمال ولا بالعيال، وأخذ اليهود الشاحنة.

 

مشينا من مدينة اللد الى منطقة رام الله مشياً على الاقدام، كانت المنطقة وعرة ومليئة بالجبال، مات الكثير من الناس على تلك الجبال، كان الطقس حاراً وجافاً وكان رمضان قد بدأ، شاهدت امرأة ميتة على منحدر احد الجبال بينما يعبث رضيعها بصدرها محاولاً الرضاعه، كنا نسمع اصوات طلقات الرصاص خلفنا، كنا نعيش حالة من الرعب والخوف إذ كان اليهود يطلقون النار على المهاجرين وقتلوا العديد منهم، كما كانوا يوقفون النساء والرجال ويفتشونهم على مخرج مدينة اللد ويسرقون ذهب النساء واموالهن، وبينما نحن نسير، وصلنا الى منحدر جبلي يحتوي على بئر للمياه، كنا جميعاً نلهث عطشاً، كنت البس حطة ومعطفاً رغم ارتفاع الحرارة، لم نحمل معنا شيئاً لانه لم ُيسمح لنا بحمل شيء وقت الخروج من اللد، لذلك اضطررنا للبس بعض الملابس حتى لا ينزعوها من ايدينا، شلحنا ملابسنا وحطاتنا حين شاهدنا بئر المياه، ربطنا الحطات بعضها الى بعض وانزلناها الى البئر وقمنا بعصرها وشرب الماء الذي استطعنا الحصول عليه بهذه الطريقة، وبينما نحن نسير كان صراخ إحدى النساء عالياً، لقد جاءها المخاض ولم يك معها شيء تغطي به ابنها، ولدته على الطريق ومن شدة الرعب أنهضتها بعض النساء بعد قليل من الولادة لتستأنف سيرها، قامت السيدة بوضع ابنها داخل صدرها دون غسله ودون لفه بأي قطعة قماش الى ان وصلت لأقرب قربة في منطقة رام الله. وصلنا ليلاً الى دير غسانه ونمنا في الارض التي سمح لنا اصحابها بالاقامة فيها، كانت ليلة قاسية لم نذق فيها طعم النوم، اكلتنا البراغيث ونهشت جلودنا، نمنا بالقرب من الاغنام والابقار ورائحتهم المزعجة، وأصبح مشهد وجوهنا وايدينا المليئة بعضات البراغيث مشهداً اعتيادياً.

 

بعض المهاجرين ماتوا عطشاً أو حزناً، خرجنا من اللد مسرعين، كان مشهد الخروج يوماً من الايام العصيبة، يوماً شبهه الكثيرون بيوم القيامة، يوم تذهل كل مرضعة عما ارضعت وترى الناس سكارى وما هم بسكارى من هول الموقف، كان البعض مستعداً لشرب أي شيء مهما كان قذراً بل طارد اللاجئون كل ما شاهدوه من حيوانات في الجبال أملاً بسد الرمق، هتف بنا شيخ قائلاً افطروا حفاظاً على حياتكم، يجوز لكم كسر صيامكم، فالأمر جلل، لكن المضحك المبكي في ذلك المشهد هو تلك الفتوى التي افتاها هذا الشيخ بينما كنا نعدوا هرباً من القصف العشوائي على الجبال ولم يك بحوزتنا أي شيء نأكله او نشربه، شاهدت أحدهم ممن عملوا على التقاط بعض الماء من اعماق بئر قليلة الماء، ذهب هذا الرجل لاحضاء الماء لامه التي كانت في الرمق الاخير قبل مفارقتها الحياة، لكن طفلة رجته حين قام بترطيب حطته ببعض الماء ان يقوم بعصر الماء في فمها، رجته رجاءاً حاراً مرفقاً بالبكاء، قام هذا الرجل بعصر الماء من حطته في فم الطفلة المسكينة بينما كانت والدته تنتظر رشفة ماء تعيدها للحياة. لم تجد الناس شربة ماء، ومات الكثير منهم عطشاً، مات العديد منهم في الجبال دون أكل أو شرب.  وعندما وصلنا الى قرية دير غسانه قرب رام الله، قال لنا احد سكانها يمكنكم المكوث مؤقتاً في ارضي حتى يفرجها الله وترجعوا على بيتكم. وفي صباح اليوم التالي وبينما كنا لا نزال نحاول النوم، سمعنا اصواتاً تصرخ قائلة أن اليهود قد وصلنا الى القرية وان علينا الرحيل بسرعة، قفزنا واسرعنا نعدو دون ان نعرف الى أين، الى ان نادت الناس علينا وعلى غيرنا من اللاجئين بالعودة إذ تبين ان الآليات القادمة الى القرية ليست سوى جرارات زراعية، كان الناس خائفين بعد ما لاقوه من معاناة ومآسٍ.

 

تشردنا في عدة مواقع قبل الاستقرار، وحين وصلنا الى نابلس حصلنا على خيمة من الصليب الاحمر، لم تكن مخيمات المدينة قد ُبنيت بعد، كان الليل بارداً، كنا نخرج لابسين الجزمات البلاستيكية لنقوم بتثبيت عمود الخيمه الذي عصفت به الريح ولنقوم بازالة الثلج من على الخيمة حتى لا ينكسر عمودها، كنا نخرج لمواجهة الزوابع بينما الارض مليئة بالوحل والطين ومياه المجاري المكشوفة التي اختلطت بمياه المطر فانتشرت في كل مكان من المخيم، بقينا على هذه الحال عدة اسابيع الى ان انتقلنا للسكن في غرفة في البلدة القديمة من مدينة نابلس.

 

كان الفلسطينيون قد أعدوا أنفسهم للدفاع عن فلسطين بما سمحت به امكاناتهم، ذهب بعضهم الى سوريا ومصر لشراء السلاح، كان ثمن البندقية باهظاً، واشتركت أكثر من عائلة في شراء البندقية الواحدة، بينما كان تسليح اليهود قوياً وكبيراً وكانوا يتلقون تدريبهم في المعسكرات الانجليزية، كان الهدف هو الدفاع عن فلسطين مهما كان الثمن، سقط مئات الشهداء دفاعاً عن فلسطين ولم تسقط فلسطين بسهولة وسرعة بل استمرت الحرب والمعارك والمناوشات حوالي سنة كاملة، لم يهاجر الفلسطينيون بسرعة بل صمدوا أكثر مما هو متوقع من أي شعب أن يصمد وحده في المعركة. قمنا بالتصفيق عندما وصل جيش الانقاذ الى يافا بقيادة فوزي القاوقجي، وعندما استشهد عبد القادر الحسيني كنا لا نزال في المنشية، جاءت شقيقتي ندى بجريدة الدفاع وهي تبكي وتصرخ قائلة: لقد استشهد عبد القادر الحسيني، كانت الصحيفة مجللة بالسواد لاستشهاد عبد القادر.

 

تناقل الناس قصة رجل ضعيف البصر، كان هذا الرجل متحمساً للدفاع عن قريته، كان يصطحب أحد الصبية معه لحراسة القرية، كان يقول له: اسمع يا بني، كل ما اريده منك هو أن تهمس بأذني عندما يقترب اليهود من القرية لاقوم باطلاق الرصاص على الجهة التي تقول لي انهم قادمون منها، ويعكس ذلك مقدار الحس الوطني والحماسة للدفاع عن الوطن.

 

 بعد العز اللي كنا فيه بيافا صرنا نزق عربايات زباله بنابلس، نعتل  للناس، اللي معاه حق عربايه كان ملك، كان جارنا يحط شوال الطحين من شرق نابلس لغربها على ضهره، اشتغلنا بمصانع الاسكمو، وصرنا نعمل الواح تلج شي ميتين لوح باليوم، ونوزعهم عالدكاكين وعالدور والمستشفيات، لما اجينا عنابلس كانت الجوامع كلها لاجئين والمغارات والمدارس كمان، والمراحيض كانت غير شكل. تعاطف سكان مدينة نابلس معنا، فتح بعضهم مخازنهم للاجئين ليعيشوا فيها، كما توقفت الدراسة في المدارس والصلاة في المساجد، تحولت المدارس والمساجد الى ملاجىء للاجئين، تم تقسيم المسجد الى زوايا صغيرة، حجمها بضعة امتار تفصل ما بينها بطانيات او ستائر، بينما كانت الحمامات والمراحيض مشتركة.

 

كان معنا بعض النقود حين وصلنا الى نابلس، لكنها لم تكن بالقدر الكافي للانفاق علينا لاكثر من بضعة ايام، وحين نفذت هذه الدراهم المعدودة فكرنا بطريقة للذهاب خلسة الى بيتنا لاحضار الذهب الذي دفنته جدتي قرب جدار المنزل في الحاكورة، لكن الدخول الى الوطن اصبح مغامرة قد لا ُتحمد عواقبها، لقد عاد بعض المتسللين جثثاً بعد القبض عليهم من قبل العصابات اليهودية التي سيطرت على معظم المناطق، بقي هذا الحلم مرافقاً لنا، يجب علينا العودة الى منزلنا لاحضار الذهب الذي تركته جدتي التي كانت تبكي وتشد شعرها وتضرب صدرها كلما تذكرت انها تركت ذهبها هناك، كانت تقول انها كانت واثقة اننا سنعود بعد عدة ايام ولم تتوقع ان يكون خروجنا نهائياً.

 

تمنيت الموت بينما كنا نعدو مسرعين تحت القصف في جبال اللد، ليت احدى القنابل انفجرت بنا لنرتاح من هذا العذاب اللامنتهي، ما هذا الهراء الذي يتحدثون عنه ويسمونه بالتعويض! بلادنا ضاعت، دماؤنا  ُسفكت، وطننا ُسلب وتشرد اهلنا في كل بقاع العالم، قبور أقاربنا لا زالت هناك في مدينة يافا، نحن فروع تنتمي لتلك الجذور. نذهب أحيانا لنقرأ القرآن لهم على ما بقي من قبورهم بعيداً عن عبث المستوطنين، لقد أغلقوا مقام سيدنا علي في وجوهنا إذ أصبح هذا المقام مقراً لحاخاماتهم، كنا نذهب الى مقام سيدنا علي لنذبح الذبائح ونتقرب بها الى الله، كما سيطروا على مصنع النسيج المحاذي لمنزلنا وقاموا بالاستيلاء عليه وتشغيله وكذلك فعلوا بمصنع الحلويات المجاور.

 

عندما اشتدت الاشتباكات قبل الرحيل، ذهبت مع والدي وشقيقتي لنقوم بحزم الامتعة والفراش والاواني وتحضيرها لنأخذها بالشحن، كان والدي يمسك مسبحته بينما كنت اقوم بترتيب العفش وحزمه وتربيطه مع اختي، كان والدي يقوم بقراءة التسابيح والقرآن لحفظ المنزل من الاذى، همست اختي في أذن ابي متوسلة له ان يتوقف عن التسبيح لان صوت المسبحة كان عالياً لدرجة انه كان الصوت الوحيد المسيطر على الهدوء القاتل، قالت له قد تسمعنا عصابة الهاجاناه وتعثر علينا وتقتلنا، وما ان صمتت مسبحة والدي حتى بدأت قطة بالمواء خلف المنزل، فبكت شقيقتي وقالت سيعثروا علينا دون شك، ثم أحضر أخي الكبير محمد سيارة الشحن التي كان يعمل عليها ونزل ليحمل مع والدي العفش ويضعه في الشحن بينما بقيت في الشحن لاراقب لهم الطريق واصفر لهم ان جاء احد عناصر الهاجاناه إذ كانت المنشية قد هاجرت ولم يبق فيها احد من سكانها الذين هاجروا الى البلدان والاحياء المجاورة، بدأ والدي وشقيقي بوضع العفش في الشحن بسرعة كبيرة، كان منزلنا مليئاً بالاغراض والعفش، قام والدي بدق قطعتين خشبيتين بشكل مصلب على باب المنزل حتى لا يستطيع أحد فتحه، كان الوقت ثقيلاً ومخيفاً، كانت المنشية مكشوفة على الاحياء اليهودية في مدخل مدينة تل ابيب، وما إن خرجنا بسيارة الشحن مسرعين حتى اطلق اليهود النار على اعمدة الكهرباء لتسقط اسلاكها على الشحن الذي لولا حماية الله لاحترقنا نحن والشحن.

 

أذكر يوماً توقفت شاحنة قرب قهوة الازاز بيافا، ووقعت منها بعض البراميل، ظن الناس أن البراميل قد وقعت من الشحن عفواً، نادى الناس على السائق الذي إتجه مسرعاً الى الجزء الآخر من الشارع، لقد وقعت البراميل عمداً، وما ان وصلت لاطراف الشارع حتى انفجرت، ُجرح كل من كان في المقهى، ومرة أخرى وقع انفجار آخر في حسبة الخضار، لكن الانفجار الاسوأ كان في دار الايتام، حيث فجر الهاجاناه القنطرة وما حولها من منازل ومحال تجارية، صعدت الى ظهر القنطرة بينما كانت فرق الانقاذ تحاول انقاذ الجرحى، شاهت سيدة ميتة بينما كانت تحتضن طفلة يتيمة لا زالت على قيد الحياة، كما عثرت فرق الانقاذ على حلاق يضع ذراعيه على زبونه الجالس على الكرسي ووجد كلاهما ميتً، كانت مدرسة الايتام مليئة بالايتام، كانت دار الايتام موجوده على قنطره في سوق الدرهلي، لقد اخافت الاشاعات الناس، لكن بعض الناس رفضت الخروج، قالت نموت ببلادنا ولا نخرج منها، اشترت احدى العالئلات، دار ابو لبن، مدفعاً رشاشاً، ووضعته على سطح مطحنتها الخاصة للدفاع عن ممتلكاتهم ومطحنتهم.

 

وفي آخر يوم لنا في اللد، وبعد يوم من سقوطها المفاجىء، سمعنا عبر مكبرات الصوت أنه يتوجب على جميع الشبان وكبار السن التوجه الى المسجد رافعين اليدين الى الاعلى، قلت لأخي الكبير هيا بنا لنذهب للمسجد ونرى ما سيحصل، فان مات الناس متنا معهم وان عاشوا عشنا معهم، شاهدنا عشرات الشبان وكبار السن متجهين للمساجد، وجدنا المسجد مليئاً، كان للمسجد حديقة وسطحاً انتشرت عليه عناصر من العصابات اليهودية موجهة بنادقها على المواطنين، كانت اللد من أكثر المدن التي صمدت وكانت قد أعدت نفسها جيداً للمواجهة، لذلك كان لا بد من ارتكاب الفظائع لحمل السكان على المغادرة والرحيل، جاء ضابط يهودي وطلب من الشبان مغادرة المسجد، وبعد ان سرت مع شقيقي مسافة مائة متر تقريباً، قلت في نفسي لماذا لا انظر خلفي لأشاهد ما يحصل في المسجد، وما أن ادرت ظهري حتى سمعت صوت الرشاشات تحصد كبار السن في المسجد وشاهدت الجثث تسقط في حديقة المسجد، ثم بدأت العصابات اليهودية بترحيل السكان من منازلهم صارخة بهم: يلا على عبد الله (الاردن).

 

وعلى الرغم من توتر الاوضاع الامنية على حدود يافا تل ابيب، الا ان الناس لم ترحل سريعاً، وبقي مختار المنشيه في الحي، رافضاً الخروج، كانت الحياة في يافا جميلة، كان بيتنا مجاوراً للبحر، كانت امواجه ترتطم بعتبة المنزل، كانت بنات عمي يأتين للسباحة ليلاً على الشاطىء المقابل للبيت، كان امتداد الرمل لا يتجاوز العشرين متراً من منزلنا، كان منزلنا عامراً بالسهرات وزيارات الاقارب حيث كنا نجلس على شرفتة المقابلة لبحر يافا، كانت العلاقة مع اهل تل ابيب من اليهود علاقة جيدة وعادية، كنا ننزل لشراء البوظة من تل ابيب بعد العصر، كان والدي يرسل عمي بالحنطور الى تل ابيب ليشتري ثلاث وردات من محل مشهور لبيع الورود لوالدتي لتضعهم في صالون البيت، كنا نعيش حياة عز واستقرار.

 

كان أخي خالد يعمل على عربة يجرها حصان لبيع الخضار، كان صاحب العربة يهودياً من تل ابيب، وعندما توقف العمل بسبب الاشتباكات، أصر أخي على ضرورة اعادة الحصان الى معلمه، ولم نستطع اقناعه بالعدول عن رأيه، كان شقيقي أصماً، لم يقتنع بكلامنا عن قيام الهاجاناه بالسيطرة على الطرق واغلاقها، قلنا له أن اليهود سيقومون بالسيطرة على البلاد لكنه رفض بعناد وأصر على التوجه الى تل ابيب لارجاع الحصان، ودخل خالد الى تل ابيب تحت ازيز الرصاص الى ان وصل الى دكان معلمه الذي فوجىء بما قام به شقيقي، قام هذا اليهودي بمرافقة شقيقي الى أن اخرجه من تل ابيب بسلام وقال له لقد وقعت الحرب ولن نعمل سوياً بعد الآن. قام والدي بعد ذلك بشراء عربة للخضار والفواكه ليقوم شقيقي خالد ببيع اللوز فيها، كان الطقس ربيعياً وكان اللوز قد تفتح وجاء موسمه، كانت لدى الناس ارادة قوية على الحياة رغم الظروف الصعبة التي تمر بها البلاد، كان يصل الى معظم احياء يافا بعربته، من حي المنشية الى حي إرشيد.

 

وعندما ازداد التوتر، ارتفعت اسعار المحروقات والكاز خاصة، كان اخي محمد ينزل الى البيارات بالشحن لتحميل البرتقال من البيارت الفلسطينية، كانت المواصلات صعبة وتشبه الوضع الذي نعيشه الآن في ظل الحصار الاسرائيلي على المدن حيث كنا نضطر للالتفاف حول القرى للوصول الى مكان معين، لكن الانجليز اوقفوه قرب مستعمرة نيتر وطلبوا منه العودة الى يافا دون سيارة الشحن، وعندما جاء في اليوم التالي لأخذ شحنه وجده محروقاً.

 

ومره سمع اخي محمد ان الشباب قتلوا يهودياً في المنشية، فذهب ببسرعه الى البيت ليطمئن على اهله، فاعتقله الانجليز على ذمة القضية ثم افرجوا عنه بعد عدة ايام بعدما تأكدوا ان لا دخل له بقتل اليهودي، وانه يعمل سائقاً على سيارة شحن، ويعمل ميكانيكياً أيضاً، وعندما افرجوا عنه ذهب الى معلمه بالكراج ليستأنف العمل ويعوض ما فاته، وإذا بيهودي يموت تحت سيارة اثناء فحصها إذ قام أحدهم بانزال رافع السياره واوقعه على اليهودي وقتله، فاعتقل شقيقي اربعين يوماً آخرين حتى ثبتت براءته.

 

 ذات مرة، وبينما كنا مشردين في الخيام في مدينة نابلس جاء علينا بعض اللاجئين القادمين من الشمال من منطقة الجليل قالوا لنا ان اليهود ارتكبو مجزرة في منطقتهم حيث أمر عناصر العصابات الصهيونية جميع الذكور بالنزول الى قهوة البلدة على الشارع العام حيث تم اختيار سبعة منهم وطلبوا منهم الوقوف على رصيف القهوة معصوبي الاعين ثم قاموا بقتلهم ليخاف من بقي في القرية ويهاجر، كما قال احدهم انهم كانوا يعدون طعام الافطار ذات يوم من ايام شهر رمضان حين سمعوا المنادي ينادي بالهروب فخرج السكان دون ان يحملوا معهم شيئاً من عفش المنزل وهربوا صائمين ثم ناموا تحت اشجار الزيتون وتوفي بعضهم في رحلة الهروب الطويلة الممتدة من الجليل الى نابلس.

 

صرنا نذهب للعمل عند المستوطنين القادمين من الخارج بعد حرب عام 1967، كنا نعمل في ارضنا كأجراء وليس كمُلاك، كانت النساء تذهب ايضاً للعمل في المزارع فيما ُسمي باسرائيل لاحقاً، قلت مرةً لمعلمي اليهودي: هذه الارض أرضنا، فقال لي بنبرة قاسية: انت تأتي هنا للعمل فقط وليس لك شيء غير اجرك.

 

مرة اخرى نزلت الى يافا في السبعينات، ومشينا من تل ابيب الى يافا بمحاذاة البحر، كان بيتنا مجاوراً للبحر ولا يمكن ان اتوه عنه، شاهدت مأذنة مسجد حسن بيك، لاحظت اختفاء الكثير من المنازل التي شاهدتها حين زرت يافا عام 1968، ذهبنا الى سوق الدرهلي وسوق البلابسة، اكلنا وجبة لذيذةً من سمك يافا الطازج، ذهبت الى الشارع الخلفي حيث كانت خالاتي واخوالي يسكنون، ثم ذهبنا الى حي الجبالية الذي يقال له الآن بيت يام، تذكرت وانا اسير والبحر الى جانبي صوت البحر الذي كانت تضرب امواجه عتبة منزلنا، جاءت البلدية مرة وبنت جداراً صغيراً لكسر امواج البحر حتى لا يدخل الماء الى المنزل، نزلت الى يافا واصطحبت معي والدي ووالد زوجتي، جلسنا في مقهى المدفع، وهو مقهىً شهير في مدينة يافا، وكان متداولاً ان من لم يزر مقهى المدفع لم يزر يافا، حاولت اقناع والدي ان يسير معي قليلاً لنرى منزلنا وحارتنا، لقد جئنا من مدينة نابلس لرؤية المنزل فلماذا ترفض اكمال السير! رفض والدي القيام والتحرك لرؤية منزله، كان في حالة نفسية غريبة، كان غاضباً وصامتاً، وحين خرجنا من المقهى نظر الى الجهة المؤدية الى يافا، رأى عمارات ضخمة، شعر بالدوار واتجه الى الجهة المقابلة المتجهة الى تل ابيب ليعود الى نابلس.

 

بعد ذلك بعدة سنوات، أخذت شقيقي خالد مرة اخرى واخي الاصغر عبد الغني الى مدينة يافا لزيارتها حيث لم يشاهداها منذ اكثر من عشرين عاماً، لم نجد حي المنشية، لقد تمت ازالته عن بكرة ابيه، كما لم نجد حي ارشيد، وجدنا المسجد وتلة يقال لها تلة بيدس، كان بيت عائلة بيدس منزلاً جميلاً ومشهوراً، مبنياً من القرميد، تذكر اخي خالد الشاطىء بينما تذكر شقيقي الاصغر المصطبة المحاذية لموج البحر حيث كان يجلس في طفولته امام المنزل، لم يستطع اخي الاصم التعبير عن غضبه وحزنه، حاول ان يشرح لي بلغة الاشارة ذكرياته عن الحصان الذي كان يقوده مسرعاً كالريح على شاطىء البحر ثم أمسك بيدي وهزها بعنف واشار لي انه يرغب بالعودة لنابلس فوراً.

 

وفي الزيارة الاخيرة ليافا، أصطحبت معي ابني وبنتي، كانت هذه الزيارة اثناء الانتفاضة الاولى، ذهبت الى حي العجمي لابحث عن منزل عمي، كان عمي تاجراً كبيراً في الحسبة هاجرنا الى منزله قبل عدة اسابيع من هجرتنا الاخيرة، هاجرنا الى العجمي ريثما تهدأ الاوضاع في المنشية، وحين ذهبت وابنائي الى المنزل قرعنا الباب فوجدناه مفتوحاً، فقلت لابنائي ادخلو انه منزلنا، وبينما كنت ادخل كنت اشرح لهم مواقع الغرف وما كانت تحتويه، وجدنا بعض العمال العرب يقومون بدهان المنزل، قالوا لنا ان المنزل تابع لدائرة املاك الغائبين فقال والدي اننا لسنا غائبين إننا حاضرون، لكنهم قالوا انت تعرف اننا مجرد عمال هنا ولا نتدخل في شيء، كانت بوابة المنزل لا زالت من الخشب المزيّن، لقد سكنا في الطابق الارضي من هذا البيت حين هاجرنا مؤقتاً من المنشية، ووجدت ان ابواب المحلات التجارية المملوكة لعمي لا زالت مقفلة، وقف ابني وقرأ لوحة حجرية مبنية على مدخل المبنى كتب عليها باللغة العربية اسم عمي مالك المنزل.

 

 أخذت ابنائي الى حي البلابسة ومستشفى الدجاني وسينما الحمرا وشارع جمال باشا والدير وسوق الدرهلي وسبيل ابو نبوت وجامع السكسك الذي تحول الى منجرة، دخلنا وتحدثنا الى العاملية فيها، كنت أدخل مع اولادي الى المنازل لأريهم واشرح لهم وليشاهدوا كيف كان فن العمارة في يافا قبل نصف قرن، كانت والدتي تقول لنا إذا متّ فلا تدفنوني في الغربة في نابلس، اريد ان أدفن في يافا. وقفت مع ابنائي على شط يافا، كنت أحدثهم عن الذكريات، وقلت لهم بينما انظر الى البحر واشم رائحته: ما أجمل بحرنا! اقترب منا رجل يهودي يتقن العربية، يبدو انه كان مصغياً لحديثنا بينما كان يصيد السمك، قال لنا: هذه ليست أرضكم وهذا البحر ليس بحركم، إذهبو الى حسين (الاردن)، هناك ارضكم، نظر الينا بعيون مليئة بالشر، فقلت لابنائي هيا بنا لنعود الى نابلس، وقلت لاولادي لو كانت فلسطين غير جميلة لما بذل اليهود كل جهدهم للحصول عليها.

 

بعد فترة في الترحال والتشرد جئنا الى حارة الياسمينة في مدينة نابلس، كنا اكثر من عشرين فرداً، كان مرحاض المنزل مشتركاً مع الجيران الآخرين، كنا ننتظر على الدور لاستخدام المرحاض، لم تكن الفرشات كافية، لم يوجد لدينا حمام نستحم به، احضر والدي بابوراً ووعاءً من التنك لتسخين الماء، وتم وضع قطعة قماش بدلاً من الباب ليستطيع الفرد منا الاستحمام، كان الحمام في مدخل الغرفة، لم يكن حماماً بالمعنى الحقيقي للحمام اذ كان مجرد مدخل للغرفة تم تحويله الى حمام بطريقة عشوائية، كنت اشاهد بقية اللاجئين الذين اقاموا في مسجد الحارة وغيره من المساجد، لقد تعطلت الصلاة في المسجد وتم تقسيمه الى اجزاء، كان الفقر مدقعاً، سمعت مرة صياحاً من بيت جيراننا الذين تقاتلوا لان ابنهم قام بشراء فراطة العنب حيث اتهمته اسرته بالتبذير. حين دخلنا الى هذه الحارة دخلناها من جهة الحوش المعتم، كان دخوله مخيفاً، خفنا ورجعنا الى الوراء وبكت اخواتي الصغيرات، اسم الله على عقولنا، كنا ساكنين جنب البحر والهواء النقي واصبحنا نسكن هذه الغرفة التي لا بد من المرور بهذا الحوش المظلم للوصول اليها بعد عودتنا من تعبئة المياه من العين كل يوم. لم يكن لدينا لا كرسي ولا خزانة ولا سرير، لم يكن لدينا شيء يذكر في هذه الغرفة، كنا نتغطى كل اربعة بلحاف واحد الا ان افرجها الله. وحين ذهبنا مرة لاستعارة طنجرة من جارتنا قالت لنا: لماذا لا تقومون بتوفير ثمن طبخة اليوم وتصومون بدلاً من ذلك لتتمكنوا من شراء طنجرة تبقى تحت تصرفكم باستمرار. لم تكن الكهرباء قد توفرت في مدينة نابلس بعد، كانت مدينة نابلس مدينة فقيرة نسبياً إذا ما قورنت بمدينة يافا، ولما تحسنت الاحوال وحصلنا على جهاز راديو كنا نجتمع حوله للاستماع ومتابعة المسلسلات الاذاعية، كانت العائلة تلتف حول الراديو لمتابعة هذه المسلسلات.

 

كانت الناس تبذل جهدها لمساعدة بعضها البعض رغم ضيق الحال، تعرّف شقيقي محمد على عائلة لاجئة فقدت معيلها وتشردت دون مأوىً او طعام، فقام محمد بجمع بعض المعونات من بعض الدكاكين في البلد ثم أعطته والدتي بعض الخبز والزعتر كما تبرعت جارتنا ببعض الجبن لهذه العائلة، كانت ظروف اللاجئين غير اعتيادية، وكانت المأساة اكبر من طاقة المدينة على تحملها واستيعابها.

 

كان لزاماً علينا تدبير شؤوننا كي نشتغل ونعتاش من عملنا، ذهبت للعمل في محل لصنع الاحذية في باب الساحة، كان الشغل يدوياً ولم تكن الآلات قد وصلت إلينا بعد، كان العمل مرهقاً لكنني كنت مضطراً للتعلم بأسرع وقت، صرت احصل على قرشين لقاء عملي الاسبوعي لاتوجه فور حصولي عليهم الى البقال لشراء نصف وقية شاي ونصف وقية سكر وفي الاسبوع الذي يليه اشتري نصف وقية زيت او كاز، لم نستطع في تلك الفترة التفكير بشراء تنكة زيت او تنكة كاز إذ كان ذلك حلماً صعب المنال، وذات يوم وبينما كنت اسير في السوق بعد ان أخذت جمعيتي من معلمي مزهواً بما احمل في جيبي، شاهدت سكملة (طربيزة) جميلة جداً وتشبه السكمله التي كانت في منزلنا في يافا والتي لم نحملها يوم حملنا الفراش وكل ما خف حمله، أخذتها الى الغرفة التي نسكن فيها لتقوم الدنيا ولا تقعد، لقد احتارت والدتي وشقيقاتي في المكان الذي ستوضع فيه هذه السكلمه، لم يجدن مكانا لها في الغرفة الضيقة اصلاً، فرض الجميع عليّ اعادتها اختصاراً للشر لاقوم في صباح اليوم التالي بإعادتها للتاجر الذي اشتريتها منه وكلي ألم على ما آلت إليه اوضاعنا.

 

فتحت الوكالة مدارس خاصة بالطلاب اللاجئين، كانت مدارسنا بيافا تعلم القرآن والحساب والزراعه، كان الفقر مدقعاً في نابلس، كيف سأذهب للمدرسة! لقد أصبح التعليم رفاهيةً، يجب علينا الكفاح في سبيل لقمة العيش، ذهب الاطفال اللاجئون الى المدارس دون انتعال الاحذية، كانت الظروف مزرية فتركت الدراسة وبقيت اعمل من يومها الى الآن، عملت مدة خمسين سنة بجد واجتهاد إلى أن ٌضرب قطاع انتاج الاحذية بفضل سياسة الباب المفتوح واستيراد السلع الصينية وغمر الاسواق الفلسطينية بها.

 

تعرفت على رجل من قرية الصفصاف في شمال فلسطين، قال لنا ان العصابات اليهودية قامت بجمع خمسة عشر شاباً وامطرتهم بالرصاص ثم كرروا الحادثة في اليوم التالي والذي يليه ليصل عدد الشبان الذين تم قتلهم تسعة واربعين شاباً، طلب اليهود من كبار السن وضعهم في حفرة العين، وهي عبارة عن غرفة قمنا قبل الاحداث ببنائها لتجميع المياه وضخها، ولا زالت الغرفة موجودة وقد نستطيع اذا حفرناها ان نجد بقايا الهياكل العظمية للضحايا الذين تم اعدامهم من قبل العصابات اليهودية. وقال لي ابو ماجد انه وبينما كان هارباً الى الحدود اللبنانية كانت معه ابنة شقيقه، كانت طفلة صغيرة ضاعت منه اثناء الهروب تحت ازيز الرصاص وضاعت الطفلة وبذل ابو ماجد جهده للعثور عليها دون فائدة، ومنذ ذلك الحين لم يعلم عنها شيئاً وبقي ضميره يؤنبه الى ان مرت عشرات السنوات على تلك الحادثة، وعندما عادت السلطة الفلسطينية الى غزة واريحا اتصلت به سيدة قائلة انها الطفلة المفقودة وانها قد تزوجت من احد العاملين في المنظمة وعادت الى الوطن، كان لقاؤه بها حاراً ومؤلماً امتزجت فيه دموع الفرح بدموع الحزن.

 

كان لدينا جهاز راديو كبير في المنزل في يافا، يسمونه صندوق الغنا، وكان والدي يقرأ الجريدة كل يوم في المنزل ويتحدث الينا عن الاخبار، كنا نعيش سوية مع اليهود دون مشاكل تذكر، كنا جيراناً،  كنا نذهب الى سوق الكرمل في يافا لنشتري الخضرة لوالدتي وكنا نذهب الى محل والدي بالباص. كانت جارتنا اليهودية تستدعيني لاقوم بإضاءة الضوء لها يوم السبت لانها لا يجوز لها ان تلمسه طيلة فترة عطلة نهاية الاسبوع لدى اليهود.

 

وفي يوم من الايام جاء اخي محمد من تل ابيب وقال ان الانجليز سيقسمون فلسطين بين اليهود والفلسطينيين، وقد شاهد اليهود يحتفلون في شوارع تل ابيب، يرقصون ويغنون ونحن لا نعرف شيئاً عن الموضوع، كنا نسكن قريبين جداً من اليهود، جاءت جارتنا اليهودية لتسهر عند أمي وقالت لها: انتم لا تعرفون ما يحاك لكم في الخفاء، سيتم تقسيم فلسطين ولن يبقى لكم منها شيئاً، فقالت لها والدتي انت تكذبين علينا، من المستحيل ان يتم تقسيم فلسطين، فقالت لنا انتظروا وستعرفون كل شيء عما قريب، وبعد عدة أيام سمعنا بالحفلات التي تقام في شوارع تل ابيب احتفالاً بصدور قرار تقسيم فلسطين بتاريخ 29 تشرين الثاني لعام 1947.

  

كنا نذهب للتخييم في الموسم الصيفي في مكان شهير يسمى موسم النبي روبين، حيث ُتنصب الخيام لاربعين يومٍ، كنت انتظر هذا الموسم طيلة العام حيث سباق الجمال والالعاب والحلويات الموسمية ومواسم الذكر والفرق الصوفية، وكان من الامثلة الشعبية الشهيرة التي ترددها نساء يافا لأزواجهن: يا بتروبنّني يا بتطلقني إشارة الى أهمية موسم النبي روبين لأهل يافا.

 

سكنوا اقاربنا ثلاث سنوات في مغارة في منطقة راس العين، لم تكن تلك المنطقة مأهولة كما هي الآن، كان الثلج كثيراً والمطر غزيراً والبرد قارصاً، غطى الثلج باب المغارة عليهم وُحشروا داخلها إلا ان جاء بعض سكان رأس العين وانقذوهم، قاموا بإزالة الثلج بالمجارف إلا ان اخرجوهم منها ليعودوا إليها بعد ذوبان الثلج، كانت المغارة قذرة فقاموا بتنظيفها إلا أن الكلاب والثعابين كانت ضيوفاً دائمة على المغارة.

 

عندما استقر بنا المقام في مدينة نابلس، قاموا بإحصائنا وتعدادنا وبدأوا بتسليمنا مخصصاتنا الشهرية من المؤن، صرنا لاجئين نعتاش على ما تعطينا اياه وكالة الامم المتحدة بعد أن كنا غير محتاجين لأحد، كنا قبل هجرتنا بأيام نقول لوالدي بعد أن هاجرنا الى العجمي من المنشية: دعنا نأخذ السمنة والحليب التي وضعتها في جرار الفخار، فقال لنا وهو يغلق الجرار: سنعود قريباً فلماذا نحمل معنا هذا الحمل الثقيل، بل لقد قام عمي بعمل قد يبدو غريباً لكنه يشير الى مدى يقينه من العودة، قام عمي قبل شهرين من الهجرة النهائية بالنزول الى منزلنا في المنشية ووصل اليه بصعوبة ليضع نصف تنكة من الجبن في المنزل وذلك حتى لا نحتاج الى الطعام عندما نعود، كان يقينه بالعودة لا يحتمل الشك.

 

اموال العالم بأجمعه لا تعوض الفلسطيني عما خسره، التعويض المالي ليس وحده مهماً بل التعويض النفسي هو الاهم، لقد حرمونا من الذكريات، لقد بحثت عن الذكريات حين نزلت الى يافا، خسرتها، بحثت عن المحل الذي كنا نلعب فيه بالتراب، لنا ذكريات جميلة في يافا. لا زلنا نأمل بالعودة، بلادنا لا تغيب عن بالنا، بلدي وبلد اجدادي وبلد والدي، ذهبت مرة الى المقبرة وقرأت الفاتحة على أرواح اقربائنا، لقد أزال اليهود الشجر والبشر وربما يزيلون القبور ايضاً، نبكي أحياناً حرقة والماً على ما خسرناه من ذكريات وربما لا تسعفنا الدموع معظم الاحيان فتبكي القلوب وحدها ولا يشعر بها أحد.

 

أتحسر على حالنا كلما شاهدت اليهود أمام عيني يسرحون في بلادنا، لقد تركنا لهم اراضي فلسطين حبلى بالثمار ليقطفوها ويحرمونا من تذوق ما زرعت أيدينا، لا يوجد فلسطيني لا يفكر بإستعادة أرضه وبيته، نحن نورًث الحلم والقضية من جيل الى آخر، لا تزال قضية فلسطين قوية في الذاكرة لا يمكن نسيانها او محوها، وستستمر هذه القضية وسيستمر شعبها بالكفاح ولن يستسلم، وإن قبلت أنا بالتعويض فسيأتي أبنائي في المستقبل ليرفضوا ما قبلته أنا وليطالبوا بحقهم في العودة، وإن تنازلت أنا عن حقي فسيكون لساني الذي تنازل ولن يتنازل قلبي. إن لنا حقاً وسنطالب به دوماً، وما ضاع حق وراءه مطالب، سأسرد تفاصيل حكايتي لأبنائي وأبنائهم، وسيأتي اليوم الذي يأخذ فيه كل ذي حق حقه. مساعدات الامم المتحدة لا تستحق الذكر مقابل ما تركناه لليهود في فلسطين، تركنا اراضٍ خصبه وخضراء لليهود ورحلنا عنها وصرنا لاجئين، جورج بوش ليس وصياً علينا حتى يحكي باسمنا وينفي حقنا بالعوده.

 

نحن شعب أعزل من السلاح بينما تمتلك إسرائيل أسلحة نووية وتجتاحنا كل يوم ولا نواجههم إلا بالحجارة، لو أننا نمتلك السلاح لما تجرّأت إسرائيل على اقتحام مدننا، من العار على دولة كإسرائيل ان تهاجم شعباً أعزلاً يقاومها بالحجارة، إنها دولة مستبدة ترغب بأخذ الاراضي الفلسطينية بالمجان وترحيل الشعب الفلسطيني الى الخارج ومنح هذه الاراضي لمهاجرين يهود. لقد أثبتنا طيلة الثمانين عاماً الماضية ان فلسطين ليست أرضاً بلا شعب، وليس أدل على ذلك من وجود الفلسطينيين فيها حتى الآن رغم كل محاولات الترحيل. لست نادماً على زيارة بلدي رغم المشاعر المؤلمة التي مررت بها، من الخطاً التهرب من مشاهدتها، بتضل بلده الواحد عزيزة عليه مهما طال الزمن ومهما بعد عنها، لا زالت دكان ابي موجودة هناك وقبور الأهل لساها هناك.

 

 

 

 

***

 

جندٌ أتوا من بعيد

قالوا: إرحل

نسفوا بيتي

قتلوا ولدي

قالوا: إرحل

وضعو في القلب رصاصة

مرو على جسدي

نصبو لي الخيمة

قلت سأبقى مارداً جرحاً يعانق امتي

وطرقت باب امتي، وكانت.. نائمة

وبقيت وحدي

وامتي تحلم

 

أضف تعليق
تغيير الصورة
تعليقات الزوار

1

aboud،
ياااااااااااه.يا الله شو احنا شعب عظيم وصبور,القصه هاي او بالاحرى(الحقيقه هاي)خلتني اتذكر عظمة شعبنا ومقدار المعاناة الي واجها بحياتوو.شكرا كتيييييييييير يا علاء على هلادب الرائع بعرض جزء من المعاناة الي بتشرح قصتنا مع الاحتلال وقضيتنا الي بحاولو بؤرة الشر ينسونا اياها.

2

واحدة من هالبلد، نابلس
شيء يدمي القلب
تصميم وتطوير: ماسترويب