قصة للنسيان
عدد القراءات: 1566

كنا اربعة طلاب في الصف الرابع الابتدائي، ندرس في مدرسة مكتظة بأكثر من سبعمائة طالب، بينما لا تستطيع هذه المدرسة أن تستوعب ربع هذا العدد، كانت ساحة الاستراحة مكتظة بالطلاب الذين لا يجدون فسحة مكانية للعب او الركض.

 

كانت الظروف الخدماتية سيئة للغاية، صفوف مليئة بالطلبة، ومدرسون قليلو الخبرة، ومرافق صحية تعيسة، ووسائط تعليمة شبه معدومة، باستثناء بعض الخرائط القديمة التي حصلت عليها المدرسة في اوائل الستينات من القرن الماضي.

 

على الرغم من ذلك، كنا نقتنص ما توفر من وقت لممارسة بعض الالعاب الخفيفه التي تسمح بها فسحة المكان، وذات يوم، اجتمعنا فور خروجنا للاستراحة التي تلي الحصة الثالثة، وبدأنا باللعب، لا ادري ما الذي وقع بيننا من خلاف، قام على إثره احدنا بضرب زميلنا الرابع امجد، مما افقده وعيه، ووقع على الارض مغشيا عليه.

 

هرع المدرسون الى زميلنا الذي لم نعرف كيف نسعفه، حملوه الى مكتب المدير الذي انفجر غضباً في وجهنا نحن الثلاثة، ثم ارسل أمجد الى المستشفى، حيث قال الطبيب المعالج ان الفتى قد اصيب بارتجاج في الدماغ افقده وعيه، وسيبقى في غيبوبة لمدة يوم كامل على الاقل، ليبدأ بعدها باستعادة وعيه في احسن الاحوال، ولن تنتهي فترة علاجه قبل اقل من اسبوع، كما قال ان هذه الحادثة قد تؤثر على نموه الطبيعي مستقبلاً.

 

صب مدير المدرسة غضبه علينا، أمر بفرض كافة اشكال العقوبات الجزائية، لم يكتف بالتوبيخ، بل قام -ولقلة خبرته- بالتحقيق معنا حول ما اسماه "ملابسات الجريمه" اثناء احدى الحصص، أي انه لم يكلف نفسه عناء الغاء حصته، وبالتالي يتمكن من استجوابنا في غرفته بشكل سري، بل قام باستجوابنا امام طلبة صفه، وذلك لعدم وجود استاذ ليحل محله في ضبط الصف، لذا لم يراع مشاعرنا والضرر النفسي الذي سيلحق بنا جراء رؤية بقية الطلبة لنا ونحن نعيد تمثيل -الجريمة- كان هذا المدير يستعين بأحد الشبان الشرسين احيانا للسيطرة على الهدوء والانضباط في المدرسة.

 

قمنا بتمثيل مشهد -الجريمة- امامه عدة مرات، وكان يكرر استدعاءنا كلما جاء وفد من المفتشين من مديرية التربية للتحقيق في الحادث، ولكن اسوأ ما قام به هو استدعاءنا لتمثيل مشهد -الجريمة- امام طلبة الصف زملائنا، حيث انهارت ثقتهم بنا، واصبحنا موضع كراهيتهم، إذ ارتسمت في ذهنهم صورة حقيرة لنا كمجرمين، وربما قتلة، إذ لا زال زميلنا امجد في المستشفى، ولا يدري أحد متى سيعود.

 

قطع الجميع علاقاتهم بنا، أصبحنا منبوذين في المدرسة، لم يقبل أحد اللعب معنا، هؤلاء قتلة مجرمون، كلمة ترددت عشرات المرات على ألسنة صبية المدرسة، وما كانوا ليدركو معنى هذه الكلمات لولا سماعهم لها على لسان مديرنا المثقف جدا.

 

مرت علينا أيام ثقيلة دون أن نستمتع بطعم النوم ولا براحة البال، كانت صورة امجد ملفوف الرأس بالضمادات البيضاء ماثلة أمام أعيننا ليل نهار، لم ُنخبر اولياء أمورنا بادىء الامر، ولكن مدير المدرسة استدعاهم وأخبرهم بخطورة ابنائهم وعدوانيتهم، ليزداد الضغط النفسي علينا، ولنصبح منبوذين أكثر، وليستمر الاهل في تأنيبنا طيلة الوقت، يا الهي كم كانت قاسية تلك الايام، كنا نرتجف نحن الثلاثة رعباً كلما تحدثنا في مأساتنا، ُترى هل سيحبسوننا كما قال المدير؟ وكم سنمضي من الوقت في السجن ان مات أمجد؟

 

ذهبت عائلاتنا الثلاثة لزيارة أسرة امجد لطلب الصفح والمغفرة، وكانت أسرته متفهمة للوضع، لكنها كانت قلقة على الوضع الصحي لابنها، اصبحنا نشعر ان كل العيون مسلطة علينا، كل العيون تعرف قصتنا، او هذا ما كنا نظنه.

 

ويصرخ صوت غريب من اعماقنا: ماذا فعلنا؟ لم نقصد إيذاءه، كل ما كنا نقوم به ليس سوى لعب  في لعب، لسنا مجرمين، لكن طريقة تعامل إدارة المدرسة مع المشكلة أخذت منحىً  غير مهني وغير كفؤ في التعامل مع المشكلة، أثرت هذه القضية في سلوكنا وتفكيرنا في السنوات اللاحقة، تكونت لدينا مخاوف كبيرة من اللعب مع زملاء المدرسة، كان كابوس حادثة امجد يرافقنا اينما ذهبنا، تطورت شخصياتنا سلبا، أصبحنا من الطلبة الذين يتهربون من اللعب في ساحة المدرسة وفي الحارة أيضاً، لم نستمتع بانطلاقة شبابنا، وأصبحت النشاطات اللامنهجية مثيراً شرطيا يذكرنا بمأساتنا السابقة، تخوفنا من المشاركة بالمهرجانات الرياضية والفرق الكشفية، لكن الامور لم تبق على ما هي عليه منذ ان التحق مدرسون شبان في التعليم في المدرسة، حيث قاموا بتعزيز ما تبقى لدينا من حب للحياة، وقاموا بدمجنا سريعا في التحضيرات للاحتفال السنوي باختتام العام الدراسي، حيث شاركنا نحن الثلاثة في مسرحية تاريخية للنبي سليمان بن داود والسيدتين اللتين جاءتا تحتكمان اليه بينما كان أمجد يصفق لنا بين الحضور.

 

 

****

أضف تعليق
تغيير الصورة
تعليقات الزوار

1

الزمن، كوكب الأرض
كلمات معبرة ورائعة من صميم الذكريات الماضية جعلتني اشعر بأنني اشاهد تلك الأحداث تتوالى أمامي لتذكرني بالجزء الصعب من شريط حياتي ألا وهو طفولتي. طفولتي التي لم أعشها كبافي أبناء جيلي ... صديقي العزيز إن ما حصل معك أنت ورفاقك ما كان ليكون لولا امر الله , حيث أن الله قدر وما شاء فعل , وتأكد تماما أن كل انسان مؤمن وصادق قد يمر في تلك التجربة فلا له وأن يتجاوزها بسهولة ويسر , مع التوكل على الله طبعا . فهذا أنا مثلكم وقد وقع لي كما حل بكم مع صديقكم أمجد مع اختلاف بسيط في التفاصيل وفي النهاية, فصديقي كان اسمه أحمد , وفي نهاية يوم طويل من اللعب كانت النتيجة , وفاة صديقي أحمد وأخذه للمشرحة , مع الاحتفاظ بجثته لمدة أربعة أيام في ثلاجة المشفى حتى صحوت من غيبوبتي بشلل نصفي وعلى كرسي متحرك مدفوعا لقسم المباحث والجنايات لاستكمال اجراءات التحقيق . ( حسبي الله ونعم الوكيل )
تصميم وتطوير: ماسترويب