ايمتا بدنا نعيش
عدد القراءات: 1854

 توجه لي بهذه الكلمات حين جلسنا على درج المقبرة الشرقية في مدينة نابلس لنأخذ قسطاً من الراحة بعد الصدمة النفسية التي تعرضنا لها ونحن نشاهد منزل صديقنا ينهار كعلب الكرتون المتراكمة فوق بعضها البعض، سالني أحد الاصدقاء، ايمتا بدنا نعيش! ورافقت كلماته تلك سحابة من الحزن الشديد، لم يك هذا المشهد بالمشهد الطبيعي، جلست وبضعة شبان من الاصدقاء المتطوعين الذين هبوا للاطمنان على ما تبقى من منزل صديقنا ومحاولة انقاذ ما يمكن انقاذه من متاع وأثاث. ايمتا بدنا نعيش! قالها وهو ابن العشرين ربيعاً، قال لي لم أر في هذا العمر الذي عشته سوى دمار البيوت والقتل والدماء والتشرد والرعب والخوف، يا له من مكان لتجاذب الحديث بين شبان في مقتبل العمر، درج المقبرة، بل ربما كان ذلك مؤشراً على انتشار الكوابيس وثقافة الموت والخوف من التهديد الذي يلاحق كلاً منا بفضل سياسة الاحتلال التي تترك كلاً منا في رعب دائم من هدم منزله وتشرده في اقل من خمسة دقاق.

 لم يبذل الجنود عناء البحث من غرفة الى غرفة عن الشاب الذي جاءوا للبحث عنه والقاء القبض عليه، فبعد نصف ساعة من انذار سكان المبنى المكون من حوالي عشرين شقة سكنية مكتظة بالنساء والرجال والاطفال والشيوخ، طلب الجنود من السكان اخلاء منازلهم عبر مكبرات الصوت وأطلقوا العنان لجرافتهم العسكرية لتبدأ بهدم اجزاء من المبنى وذلك قبيل الفجر، لم يتورع جنود الاحتلال عن استعمال القنابل والرصاص لارهاب المواطنين الذين تم اخلاءهم واخراجهم من المبنى بسرعة شديدة. نزل الرجال والنساء دون حمل اي شيء من متاعهم، لم يخطر ببال احدهم ان هذا الخروج سيكون الخروج الاخير، ما اشبه اليوم بالامس البعيد، هكذا خرجوا عام 1948، لم يظنوا انهم لن يعودوا، وليس أدل على ذلك سوى طعامهم الذي شاهدته على طاولات الطعام في مطابخهم حين دخلنا ما تبقى من المنازل، كان الخبز والزيتون وغيره من الطعام جاهزاً للاكل، يا إلهي، تماماً كما قالت جولدا مائير في مذكراتها عن احتلال مدينة حيفا، قالت: لقد اخذنا من العرب بيوتهم التي كانت مجهزة بكل شيء، واضافت: لقد دخلت بيتاً وشاهدت الطعام لا يزال على المنضدة، يبدو ان اهل ذلك البيت كانوا يعدون انفسهم لتناول الطعام فجئنا واخرجناهم عنوة منه.

 قال لي صديق آخر من المتطوعين الذين هبوا للمساعدة، كيف ساشعر اذا سافرت خارج الوطن؟ لن اشعر بالطمأنينة على أهلي وبيتي، سأبقى في قلق دائم، لن ارتاح هناك، ساحمل همي معي اينما اذهب، وكيف ساشعر بالطمأنينة! ستلاحقني الكوابيس اينما ذهبت، لن استطيع التكيف في حياتي هناك إذ أنني سأتمزق بين هناك وهنا.

 كنا ومنذ انطلقنا سوية في عملنا منذ احد عشر عاماً قد اعتدنا على وضع ارشيفنا في منزل صديقنا فواز الذي خسر منزله، كنا نؤمن ان منزله اكثر أماناً، لم يعد هناك مكان آمن في هذا الوطن، اصبحت كل المواقع مستباحة، كل الامكنة في متناول جنود الاحتلال اللطفاء الذن حولوا هذا المنزل من منزل آمن الى ركام، وحولوا اهله الى مشردين ولاجئين.

 اقتربت من والدته، كانت واقفة تنظر الى جموع المواطنين، حائرة، لا حول لها ولا قوة، اقتربت منها وحاولت مواساتها، رفعت عيونها الى الاعلى، نظرت الى بقايا المنزل، وانهمرت من مقلتيها دموع عزيزة تعدل كنوز الارض.

 بينما كنا نحمل احدى الطاولات الخاصة باحدى العائلات المنكوبة، سأني احد الاصدقاء، الى اين نسير بهذه الطاولة، ولأي عائلة تعود هذه المواد التي نضعها في زاوية الشارع، وقفت فجأة وسط التراب والغبار، قلت له: أشعر انني شاهدت هذا الموقف من قبل، ثم قلت بعد ثوان: في عام 1948 حاول الفلسطينيون العودة الى بعض القرى المهجرة لاخراج ما امكن من العفش وايصالها الى الخطوط  الخلفية حيث يتشرد اللاجئون الذين كانوا يأتون للتعرف على متاعهم ومن ثم أخذه. فلنفعل ما علينا فعله الآن، وستقوم العائلات المنكوبة بفرز اغراضها لاحقاً.

 بكل ما اوتينا من عزيمة، حاولنا ان نجمع ما امكن من عفش المنازل وترحيلها الى البيوت المجاورة، كنا كمن يسرق شيئاً بسرعة قبل ان يعود الجنود ويهدموا المنزل مرة ثانية، ننقل كل ما خف حمله او لم يخف، كنا ندخل المنازل ونضع بطانية على الارض ونقوم بالقاء كل ما تصل اليه اليدين فيها، كانت بعض غرف النوم قد تمت ازالة الجدار الرابع لها، فكنا ونحن نفتح الخزائن نرى مئات المواطنين اسفلنا، حيث كانت اجزاء من ارض المنزل قد تمت ازالتها بالاضافة الى بعض الجدران، كانت الشقق السكنية التي دخلناها آيلة للسقوط في أي لحظة، لذلك كنا في عجلة من امرنا لانقاذ ما يمكن انقاذه قبل الانهيار وقبل عودة الجنود الذين كانوا على مسافة مائة متر فقط من المكان مدعية انسحابها من الموقع. اندفع المواطنون بايمانهم وخوفهم على جيرانهم لعمل اي شيء، لكنهم كانوا فقراء للامور اللوجستية الفنية، كنا في امس الحاجة لمقصات كهرباية لقطع الحديد الذي يعيق عملية الانقاذ والاخلاء، سلالم طويلة، ادراج بلاستيكية لاخراج المتاع كتلك التي نشاهدها في التلفزيون، يا الهي كم نحن نشيطون في التظاهر والاحتجاج لكننا ضعفاء في تحويل هذه الطاقة التظاهرية الى فعل مفيد، اشعر ان الاهم من التظاهر في هذا الوقت هو الذهاب لمجموعة من الحرفيين والحدادين وتصميم درج حديدي بشبه ذلك المستعمل في المطارات وبارتفاع عالٍ لنقوم باستعماله في ظروف كهذه، لقد بدات الانتفاضة قبل سنوات ولا زالت مؤسساتنا اصغر من التفكير بآليات اجتماعية لمواجهة الحصار واكتفت بالاليات التقليدية التي لا تجيد غيرها.

 ذهبت في الصباح اثناء قيام الجرافة الاسرائيلية بهدم اجزاء من المبنى، لم استطع الاقتراب كثيراً، حاولت التقاط بعض الصور، تذكرت انني قمت بالتقاط بعض الصور لهذا المبنى وغيره قي السنوات الماضية، لم يخطر ببالي ان هذا البناء الجميل سيصبح ايضاً من الذكرى، يا إلهي كم تتحول حياتنا وبيوتنا الى ذكريات، ما اخشاه ان يتحول وطننا بأسره الى ذكرى نتحدث عنها كما يتحدث الناس عن يافا وغرناطة.

 شاهدت وانا انظر للمنزل بعض الدوريات العسكرية الاسرائيلية تجوب الحي لتوفير الحماية للجرافة التي تقوم بمهام الهدم، وقف شاب الى جانبي، كان مرتبكاً ويتحدث الى نفسه، سالته عن الاخبار فقال لي: لقد تركت ابنتاي الصغيرتان عند عمتهما لان والدتهما في المستشفى، إنني قلق جداً عليهما، انهما صغيرات السن، وبصعوبة تمكن هذا الرجل من الحديث اليهن على الجوال، بكى وهو يستمع الى صوت ابنتيه، وبينما يتحدث هذا الرجل الى اطفاله جاءت سيدة تتحدث مع نفسها، قالت: لقد قتلو ابني قبل عدة اشهر وها هم قد دمروا منزلنا اليوم. لم يبق لنا شيء.

أضف تعليق
تغيير الصورة
تعليقات الزوار

1

Reema، Canada
reading this story made me cry .. sometime we forget ..but we have to always remember ... I LOVE YOU PALESTINE..

2

لارا، قطر-الدوحة
شكرا للي كتب الرسالة والله انها بتجنن فيها تعبير كانو الموقف ادامنا هلئ بس والله ما حننسنا طول حياتنا اسرائيل شو عملت فينا.......

3

رزان، الرياض
شكرا الك اخي على هاي القصه الي بتعبر عن معنات الشعب الفلسطيني الي بعاني مش من هلاء بل من قرون
تصميم وتطوير: ماسترويب