من بعيد لبعيد
عدد القراءات: 2589




بقلم: علاء ابو ضهير

كعادة كل مسافر الى خارج الوطن، لا بد من قضاء يوم في مدينة عمان، لكن زيارة عمان هذه المرة اكتسبت منحىً اكثر عمقاً، إذ لم تبهرني التطورات الاقتصادية ولا النشاطات العمرانية التي تكتظ بها المدينة الحديثة بمقدار ما اعجبني التنوع الثقافي الذي تتمتع به عمان، زرت بعض المؤسسات الثقافية والعلمية التي تنتشر بكثرة في المدينة، تتمتع عمان بتعايش قوي بين الاعراق والاجناس والقوميات والاديان واللغات المختلفة، تعيش هذه الاجناس مع بعضها وتكتسب رزقها في هذا البلد رغم ما بينها من تمايز واختلافات كثيرة، ولكن، جمعت المصلحة المشتركة هذه الاعراق وفرضت الانسجام على جميع اطياف المجتمع وذلك لتشكيل موزاييك اجتماعي قائم على الاختلاف والتكامل.

للانفتاح على الآخر دور هام في صقل الشخصية المتقبلة لثقافات الآخرين واديانهم واعراقهم، كما يدفع اقتناعنا بعدم امتلاكنا للحقيقة الى تقبل الآخر وًحسن تفهمه، كما يجعلنا هذا التمايز والتكامل نؤمن بأننا لسنا الوحيدين الذين نعيش على هذا الكوكب، بل هناك اعراقاً واجناساً ولغات يجب علينا التعامل معها واحترامها بغض النظر عن لونها وشكلها.

كان لهذا النهج الاجتماعي دوره المتميز في التخفيف من حدة التقاطب والاستجذاب بين الثقافات المختلفة واثره الايجابي على قبول الثقافات الاخرى والانفتاح على الحياة بدلا من الانغلاق على الذات، لقد ادركنا جميعاً خطورة الانغلاق الفكري الذي فرضته ظروف قطاع غزة وبعض اجزاء الضفة الغربية على عقل بعض الفئات التي اعتقدت انها تعيش في مرحلة ماضية لا بد من اعادة انتاجها بل ويجب محاكمة الشارع دون العودة الى الفقهاء او المفتي الديني بالاضافة الى فرض رؤيتها للحياة الاجتماعية والسياسية على السواد الاعظم من المجتمع المغلوب على امره والعاجز عن مواجة هذه القوى الظلامية. ان الانغلاق على الثقافة المحلية سيؤدي حتماً الى كوارث فكرية واجتماعية لا تحمد عقباها.

توجهت الى المطار في طريقي الى ايطاليا، لاقلاع الطائرة رهبة ونكهة غريبة لا تخلو من بعض المتعة والاثارة، يشعر المسافر بعظمة الخالق الذي سخّر لنا هذا وما كنا له مقرنين، اعجبني هذا الدعاء الذي تبدأ به الخطوط الملكية الاردنية رحلتها، تبدو القرى والجبال والمدن صغيرة للغاية، وما هي الا دقائق صغيرة حتى حلقت بنا الطائرة فوق غور الاردن ثم انتقلت الى الساحل الفلسطيني المحتل والمكتظ بالمدن، آه لهذا القدر الذي يمنحني القدرة على رؤية الوطن من السماء ولا يسمح لي بلمس ترابه ولا زيارته، ساحلنا جميل، اراه من هنا، من بعيد، لكنه بعيد، بعيد جداً، أبعد منك يا روما.

بينما كنا نقترب في تحليقنا بالطائرة من مدينة نابولي في جنوب ايطاليا، نظرت من النافذة وفوجئت بجبل شاهق جداً، عظيم الشكل، كانت الطائرة قريبة منه كثيراً، يسمى هذا الجبل بجبل آزوف الشهير، وهو جبل بركاني ثائر يحيط بمدينة نابولي ويخرج منه الدخان بين الحين والآخر. تتناثر القرى الايطالية على جبال خضراء، يغلب الطابع الجبلي على المناطق الايطالية ذات الطبيعة المتميزة بتضاريسها، كما تتعانق الاشجار في مساحات شاسعة لتشكل غابات كثيفة تسرق اللب والخيال.

بينما كنا نجلس في لقاء دولي، تم توجيه سؤال لي حول اي البلاد ترغب بزيارتها بعد زياراتك للعديد من دول العالم، اجبت وبكل هدوء: فلسطين، وقع جوابي كالصاعقة على قلب كل من سمعه، كيف يمكن لشخص يمثل فلسطين في لقاء دولي ويحمل اسمها على بطاقته ان يحلم بزيارة بلد اسمه فلسطين، اثارت هذه اللحظة تساؤلات غريبة واجوبة اكثر غرابة.

اول ما لاحظته على طليان الجنوب بساطتهم وبعدهم عن البرود الاوروبي المعهود، دفء العلاقة والود غير المتوقع في اوروبا، كذلك نهمهم الشديد بالطعام، خاصة طعام البحر والسباكيتي والمعكرونة والبيتزا، للطعام تقاليده وطقوسه، تمت دعوتنا لحفل عشان استمر ثلاث ساعات، تم خلاله تقديم اربعة او خمسة اطباق لكل منا، تم تقديم الوجبة بالتقسيط الممل، تماماً على الطريقة الشامية، حيث تبدأ وجبة الطعام بتناول المقبلات البحرية يليها المزيد مما يجود به البحر لتكون آخر وجبة قطعة من السمك الطازج، يقوم الطهاة باستعراض السمكة الكبيرة التي تم اعدادها لتكفي خمسين مشارك وذلك بعد طهيها بعناية وتزويدها بكل ما تحتاج اليه من بهارات لذيذة، ولا يبدأ توزيع الطعام قبل ان ينال هؤلاء الطهاة المهرة تصفيق الحضور وتصفيرهم.

ركبنا الكوبري، او ما يسمونه ب ( الفرري)، ويسميها اشقاؤنا المصريون ب المعدية، وهي شبه سفينة كبيرة تحمل البضائع والسيارات والركاب لتنقلهم من الساحل الى جزيرة داخل البحر، تم اختيار جزيرة بروشيدا لتكون مكاناً لعقد الورشة التي اجتمعنا من مختلف دول حوض البحر المتوسط والبحر الاسود للمشاركة بها.

للغروب سحر جميل من على افق البحر، عدت بالذاكرة الى الماضي غير البعيد، حاولت استذكار آخر مرة شاهدت فيها بحراً وغروباً، يا لفقر الطبيعة التي نحياها فيما تبقى من فلسطين، ارض غير خضراء، لا ماء ولا بحر ولا سماء، لا نهر يكسر الحصار ويأتي الى مدننا فيسقيها ونأكل من سمكه، وحين وجدنا حولنا بحراً، كان هذا البحر ميتاً.

يعيش اهل جزيرة بروشيدا على ما يجود به البحر عليهم من اسماك طازجة تكفيهم حاجتهم وتزيد، جلست على شاطىء هذه الجزيرة البعيدة عن التكنولوجيا والانترنت والصحافة والاعلام، استمتعت بعدم رغبتي بتفقد بريدي الالكتروني، واعتبرتها اجازة من التكنولوجيا. فمنذ بزوغ عصر الانترنت، وقفت موقفاً معادياً لها، موقف القارىء الذي أحب رائحة الكتاب، خاصة تلك الكتب صفراء اللون، ذات الرائحة الغريبة، موقف القارىء الذي أحب الليل وعشقه، القارىء الذي عشق الموسيقى المرافقة للحظات القراءة في ساعات الليل المتأخر، سواء في الصيف او الشتاء. كان موقفي المعادي منطلقاً من رغبتي بعدم الانجراف وراء التكنولوجيا وسطوتها، احببت الاحتفاظ ببعض الكلاسيكية او ما يسمونه الرجعية في التعامل مع التكنولوجيا، لم تستهوني فكرة البريد الالكتروني، عشقت رائحة الرسائل القادمة من وراء البحار، عشقت جمع الطوابع المختلفة، عشقت خطوط الكتابة اليدوية للاصدقاء، اعجبتني بطاقات التهنئة القادمة من بلادٍ كثيرة مكتوبة بخط اليد وليست نسخاً الكترونية جاهزة.

لكن الغزو التكنولوجي لم يتركني وحيداً، انجرفت شياً فشيئاً نحو هذا العالم الغامض، كان الكمبيوتر جهازاً غامضاً مليئاً بالطلاسم والضبابيات بالنسبة لثقافتي الادبية، ولكنني سرعان ما اصبحت مدمناً على العمل على هذه الآلة العجيبة، لم يخطر ببالي يوماً انني سأصبح أسيراً لها، انقطعت تدريجياً علاقاتي الاجتماعية وبدأت اواصر العلاقات العائلية بالتضاؤل مع السنوات، أصبحت مواطناً الكترونيا، واستعضت عن صداقاتي الاجتماعية بصداقات الكترونية من شتى البلدان، كنت انتظر عودتي للمنزل لالتقي بهؤلاء الاصدقاء، واشعر بالاشتياق اليهم كلما طالت فترة الفراق، كنت اعمل ليل نهار وراء شاشة الكمبيوتر، وازدادت ساعات العمل لتصل الى اكثر من خمسة عشر ساعة يومياً، يا له من جهد كبير ويا لها من أعباء كبيرة ملقاة على عاتقي، لكنني استمتع بإنجازها، احببت عملي كثيراً، وتحولت شخصيتي الى شخصية الكترونية يرتبط فيها كل شيء بالمهام الالكترونية التي يتوجب علي انجازها، حيث أعمل اثناء نومي أيضاً، حتى ان مناماتي تحولت لتصبح مقترنة بشؤون العمل، مما فرض علي متاعب نفسية مرتبطة بظروف العمل، حاولت وجربت مراراً التخلص من جهاز الكمبيوتر، لكنني لاحظت ان اعصابي تتعرض للتوتر كلما ابتعدت عنه، اصبح رفيقي الذي لا ُيمل وصديقي الذي تنتعش نفسي بلقائه.

ولكن، وبعد سنوات من هذا الروتين القاتل، تعرفت على شكلٍ أخر للحياة، الحياة الروحانية والعاطفية والوجدانية التي طالما افتقرت اليها، انتبهت الى التقصير الذي اقوم به تجاه نفسي، فكانت جزيرة بروشيدا هي المغيث ولو مؤقتاً، قامت بروشيدا بتزويدي بما احتاج اليه من صيانة للروح التي تعبت وارهقت خلال الفترة الماضية، بل يمكنني القول انها قامت بإعادة شحن طاقتي كما قامت بازالة الغبار الذي تراكم على الذاكرة والعواطف والمشاعر الانسانية التي كثيراً ما اهملتها. شكراً لك بروشيدا لانك اعدت اكتشاف الانسان الذي بداخلي.

مشينا حفاة من اعلى قمة جبل الجزيرة الى وسطها، جميل ان يتحرر المرؤ من حذائه، لم لا وقد انعم الله على هذه الجزيرة بنظافة الشوارع وبلاطها الجميل، ما اجمل ان يعود الانسان الى طبيعته وبساطته، احببت مشهدنا نسير حفاةً بين ازقة الجزيرة وشوارعها وشطآنها، تحدثننا في الادب والشعر والموسيقى ولم ارغب بالحديث في السياسة كعادتي كلما التقيت احداً، يا لهذا المرض المعشش في اعماقي، السياسة وهموم الوطن، لماذا نظن ان الحديث في السياسة يجعل الآخرين يتعاطفون معنا! لماذا لا نغير اسلوبنا في مخاطبة الرأي العام الدولي وذلك باستعمال الأدب والشعر والموسيقى وغيرها من التجليات الانسانية التي يشترك فيها الناس بغض النظر عن انتماءاتهم العرقية والدينية، لقد قمنا بإفقار قضيتنا بقصرها على السياسة والتاريخ واهملنا البعد الانساني والادبي، هذا البعد الذي يعتبر اكثر غناءاً من الابعاد السياسية والتاريخية التي كانت دوماً متقلبة ومتغيرة.

جلست على شاطىء البحر حتى ساعات ما بعد منتصف الليل مستمعاً لصوت الموج المرتطم بالشاطىء بلطافة وعذوبة، كان البحر يعزف الحانه بعذوبة لم اسمعها منذ سنوات، شيء ما تحرك داخلي، شيء ما قد تكسر، يذكرني هذا البحر بالحرية المسلوبة، كنت استمتع بالسباحة لأتخلص من الجاذبية الارضية ولأشعر بانني استطيع التحكم بقراراتي الخاصة بجسدي ووجوده في الماء دون رسميات ولا مجاملات، يمكن للجسد ان يقفز بحرية، لماذا نحب السباحة لو لم تكن تحرراً من الجاذبية والقيود وتمرداً على المألوف! كانت السباحة دوماً تمرداً على ربطة العنق وطريقة المشي التقليدية والملابس الرسمية، كانت قفزاً بعكس التقاليد.

للضياع في هذه الجزيرة مذاق رائع، تقوم على هذه الجزيرة بلدة قديمة تعادل في حجمها البلدة القديمة لمدينة نابلس، اهلها بسطاء، لطفاء، شوارعها ضيقة جداً، تكاد لا تتسع لمرور سيارة صغيرة، لكن طبيعتها الجبلية جميلة جداً واشجارها خلابة وغاباتها كثيفة، تماماً، كتلك الجزر التي كنا نراها في الافلام المثيرة، نزلنا من اعلى جبل في الجزيرة حيث كان موقع اجتماعاتنا في مبنىً قديم تم ترميمه، ومشينا باتجاه وسط الجزيرة الذي تهنا عنه، مشينا عدة ساعات تائهين في الازقة وعلى الشطآن، لكننا لم نبال بالضياع، بل بحثنا عنه، لم نكترث بضياعنا، إذ مهما كبرت هذه الجزيرة فستبقى جزيرة لا يمكن الابتعاد بها كثيراً، لكن الممتع هو المناخ النفسي اللطيف الذي عشناه ونحن نكتشف الجزيرة، تحدثنا كثيراً، حلمناً سوية بغد مشرق ُتلغى فيه الحدود، غد يخلو من القهر والظلم والاستبداد، غدٍ تتحقق فيه العدالة الاجتماعية لجميع البشر ليعيشو حياة كريمة لا ظلم فيها.

في الجزيرة، طعام البحر شهي ومتنوع، والاشجار المثمرة وغير المثمرة تشابه نظيراتها في وطننا، حتى الازهار والحمضيات يفوح عطرها ورائحتها في ازقة البلدة القديمة من هذه الجزيرة.

استيقظت على صوت الديك في الحاكورة المجاورة للفندق البحري الذي نزلت فيه، نهضت باكراً، نشطاً، غير مثقل بأعباء الامس، لاستلقي على كرسي بحري على شرفة الفندق العلوية، متأملا صباح الجزيرة ومصغياً بدقة الى اصوات العصافير والطيور ذات الاحجام والاسماء المختلفة. لا يقتل هذا الصمت صوت الرصاص او صوت ابواق السيارات، بل تتمتع الجزيرة بعذريتها دون ان ينغص احد مزاجها الرائق، يخرج اهلها للصيد في الصباح الباكر ليعودوا في المساء وقد امتلأت شباكهم، يخرجون بكل ثقة بأنهم سيعودون بشباك مليئة بالاسماك من كل نوع، يعيشون من تعب ايديهم وعرق جباهمم ولا يتسولون الاخرين للحصول على رواتبهم. لذلك تراهم يتمتعون بالكبرياء وعزة النفس.

تأملت في هذه الدولة التي اشتهرت بفنون عصر النهضة، لقد عاشت ايطاليا عصراً ذهبياً طويلاً، إذ كانت الامبراطورية الرومانية من اقوى امبراطوريات التاريخ وامتد نفوذها الى معظم بقاع العالم القديم، كانت بجبروت الولايات المتحدة الامريكية اليوم، لكنها اليوم تعيش على إرث حضاري وامجاد قديمة لا تستطيع اعادة انتاجها، فالتاريخ لا يبتسم للامم إلا مرة واحدة.

انا في الجنة الآن، وبعد أيام سأعود الى الجحيم، سأعود الى الوطن الذي تمتعت بالبعد عنه وعن اخباره عدة ايام، إن اجازة قصيرة كهذه تعيد للانسان ألقه وحيويته وتذكره بالانسان الذي بداخله، هذا الانسان الذي اوشكنا ان نفقده في ازمة الصراع. ما اجمل الاستمتاع بالحياة بدلاً من هدرها بإعداد الذات لهذا الإستمتاع.

اشتهرت هذه الدولة بثقافتها الموسيقية الكلاسيكية وتراثها الشعبي وابنيتها وكنائسها العامرة والجميلة، لكن اجمل ما فيها هو الانسان والطبيعة التي تعزف الحاناً طبيعية دون ادوات موسيقية، يمكن الاصغاء لهذه الالحان التي يعزفها القلب حين يرى جمال الطبيعة الخلاب والغابات الكثيفة والطيور التي تغرد وتغني بما منحها الله من اصوات جميلة.

وضعت رأسي على وسادة الغرفة التي سكنت فيها في ذلك الفندق البحري، شعرت بالسكينة والطمأنينة التي افتقدتها طيلة السنوات الماضية من التوتر الامني الذي اعيش فيه وما يرافقه من توقعات لاقتحام الجنود لمنزلي او لاطلاق النار في هذا الشارع او ذاك من المدينة، لا شيء اثمن واغلى من السكينة وراحة البال، لكن راحة البال قد تكون مملة احيانا إذ لا بد من بعض الاثارة في الحياة ليعطيها رونقها وتألقها.

ذهبت في اليوم الاخير لزيارتي لايطاليا الى مدينة نابولي او التي تسمى بالانجليزية نيبلس، تميز الذين التقيت بهم بمعرفتهم الجيدة بالقضية الفلسطينية ومتابعتهم لاخبارها وتفاصيل الحياة فيها كما التقيت بالكثيرين منهم ممن كانوا قد زاروا الاراضي الفلسطينية.

الكامورا، كلمة تثير الرعب في قلوب الكثيرين من سكان مدينة نابولي، هذه المدينة التي تفاجأت بما فيها من مبان آيلة للسقوط واحياء فقيرة تشبة تلك المتناثرة في دول امريكا اللاتينية، وبانتقالي من جزيرة بروشيدا الى نابولي شعرت بانني انتقلت من الحلم الى الحقيقة، او من الجنة الى الجحيم، استضافني صديق قديم في منزله الكائن في حي شعبي فقير، فوجئت بوجود بعض الصور معلقة على الجدران لشبان تم قتلهم، تماماً كتلك الصور المعلقة للشهداء في بلادنا، استفسرت عن هذه الصور فقال لي صديقي هامساً: اخفض صوتك وسنتحدث حالما ندخل المنزل، فوجئت بهذا الحس الامني في دولة اوروبية توقعت انها على درجة عالية من الامن والامان، تبين لي لاحقاً ان هذه الصور تعود لشبان قامت الكامورا (احد اشكال المافيا) بقتلهم خلال الاسابيع القليلة الماضية وذلك انتقاماً لدور آبائهم في محاربة النشاطات غير المشروعة التي تقوم بها الكامورا، شاهدت قسيساً يتحدث الى حشد من الناس امام الكنيسة، وكان الجو متوتراً قليلاً، فقال لي صديقي، سيقتلون هذا القسيس قريباً كما قتلوا الذي سبقه، ثم نزل الى آلة الصراف الآلي لسحب بعض النقود وطلب مني ان أراقب له الطريق وان اصرخ اذا اقترب منه احد اثناء سحب النقود، فوجئت بهذا الرعب الذي يسيطر على مواطني تلك المدينة الذين يعانون ايضاً من نظام الخاوات التي يجمعها افراد الكامورا من اصحاب المحلات التجارية مقابل حمايتهم والسماح لهم بممارسة اعمالهم التجارية.

ذهبت لمساعدة صديقي بالإعداد لحفل خيري يجري تنظيمه لجمع بعض التبرعات لصيانة مركز خدمة المجتمع الذي يقوم واصدقاءه بإعداده وترتيبه لتقديم خدمات اجتماعية لاهالي هذا الجزء من مدينة نابولي، حيث يتبع نشطاء المؤسسات الاجتماعية نظاماً غريباً من نوعه ولكنه نظام ينسجم مع حالة الفوضى التي تسيطر على اجزاء من مدينة نابولي، حيث قام صديقنا وبعض زملائه بالسيطرة وبالقوة على مبنىً مكون من ثلاثة طوابق مهجورة، ووضعوا اليد عليه واعلنوا الحاق المبنى بجمعيتهم دون انتظار موافقة المحافظة او البلدية. قام صديقنا باصطحابي ايضاً للتعرف على مبناهم القديم الذي يتكون من مبنى متآكل ولكنه يصلح للاستعمال لاغراض اعداد النشاطات والمظاهرات والفعاليات الاجتماعية والثقافية التي تقدم خدمات جليلة لاهالي الاحياء الفقيرة، تحدث لي صديقي عن صعوبة التغيير في المجتمع الايطالي الجنوبي، حيث لا زال المواطنون يخشون مواجهة الكامورا ويذعنون لاوامرها رغم اقتناعهم بضرورة اجتثاثها من المجتمع، تحدث لي عن محاولات كثيرة لمواجهتها لكن هذه المحاولات تبوء بالفشل، وحين سألته عن سبب قيامه مع زملائه بتنظيم فعاليات ونشاطات لصالح فلسطين في الوقت الذي تعاني بلده من مشاكل كبيرة لا تقل خطورة عن تلك التي تعاني منها فلسطين، اجابني: هنا يتعاطف الجميع مع قضية فلسطين، بل انها تعتبر القضية العالمية الاولى للكثير من الجمعيات والاتحادات والنقابات، ولكننا اذا رغبنا بتنظيم فعاليات ونشاطات لاصلاح الاوضاع الداخلية في نابولي فإن الكامورا لن تسمح لنا بذلك، فأعداء التغيير في مجتمع نابولي يسيطرون على كل شيء بينما تكتفي الحكومة بالتفرج ومحاولة القيام باجراءات خجولة بين الحين والآخر.

ذهبنا الى الحفل الذي تم تنظيمه في ساحة الجامعة لحوالي الفي مراهق، رقص الجميع على انغام موسيقى صاخبة عالية الصوت، تركتهم، وعدت لاحصل على قسط من النوم يساعدني على مشاق اليوم التالي.

زرت الاحياء الاكثر رقياً في مدينة نابولي، استقبلتني صديقة قديمة واصطحبتني في جولة لتلك الاحياء التجارية التي تشبه نظيراتها في اوروبا الغربية، ُيفاجأ الزائر من ذلك الفرق الكبير بين الفوضى والفقر المنتشر في بعض احياء مدينة نابولي والاستقرار والامان الموجود في هذه الاحياء التجارية، شاهدت فتاة تلعب بدمية لبينوكيو، جلست على الارض لأخذ قسط من الراحة، تحلق الكثير من المواطنين للاستماع اليها وللموسيقى ومشاهدة حركاتها الرشيقة باللعب بدمية بينوكيو، جاءت فتاة تصطحب كلباً ظريفاً وطلبت مني أن اتبناه حتى لا ينحرف اذا لم يجد من يعتني به، قالت لي انها تخشى عليه الفقر والجوع وان قيامي بتبنيه سيكون عملاً انسانياً تجاهه، كادت الفتاة تبكي من اجل اقناعي، لكنني تذرعت بعدم حصولها على شهادة ميلاد الكلب واوراقه الرسمية حيث لا استطيع اخذه معي عبر المطار، وتساءلت حينها عن شعب بكامله يبحث عمن يتبناه ويرعاه ويوفر له طعامه، ليت شعوبنا العربية تحظى بالرعاية التي تتمتع بها الحيوانات الاليفة في اوروبا.

عدت بالطائرة محملاً بأفكار جديدة، ومشاريع كثيرة بإنتظار التنفيذ والمتابعة، لكنني عدت ايضاً بروح اكثر تفاؤلا وعزيمة اكثر قوة على المزيد من العمل، كيف لا وقد تجدد للقلب نشاطه وغسل ما علق به من شوائب، اقتربت الطائرة من الساحل الفلسطيني، طلب منا قبطان الطائرة ربط الاحزمة تمهيداً للهبوط التدريجي في مطار عمان، وما هي الا دقائق قليلة حتى شاهدت الساحل الفلسطيني المحتل والمستعمرات الاسرائيلية التي تم بناءها عليه، نظرت الى الوطن من بعيد، من على ارتفاع الاف الاقدام، تمنيت ان تضطر الطائرة للهبوط في احد المطارات الاسرائيلية حتى استطيع ملامسة تراب الوطن، او على الاقل حتى ارى ترابه واشجاره عن قرب، وحتى تكتحل عيني بمشاهدة ما تبقى من الوطن، لكن القدر كتب لي ان اراه من السماء، من فوق، من جانب السحاب، من بعيد لبعيد، وهنا تذكرت جوابي الذي قلته من قبل حين ُسئلت عن اي البلاد تحلم بزيارتها اكثر؟ فاجبت: فلسطين. ُترى هل سياتي ذلك اليوم!

***


جزيرة بروشيدا الايطالية، 26/5/2007


أضف تعليق
تغيير الصورة
تعليقات الزوار

1

رزان، الرياض
عنجد مشكوور القصه كتير بتجنن وكتير مؤثره وخاصه انها عن بلدي فلسطين

2

وسام، فلسطين
هذه المرة الاولى التي اقرأ لك فيها ...... فاعدتني بالذاكرة الى الوطن .... الى نابلس ..... وجامعتنا النجاح.... وشوارعها .... فكم خطت اقدامنا على ارضه وكم استنشقنا عبير بياراته وها نحن كما انت نفتقده ونناديه من بعيد زنشاهده عبر شاشات التلفاز واخبار الصحف ...... بعد كل اختراق وصف وتقتيل وتجريف مذاق الوطن كحلوى لم تصنع بعد ...... لانه لا مثيل له شكرا لك وابدعنا بالمزيد
تصميم وتطوير: ماسترويب