ثقافة الصوت العالي
عدد القراءات: 1617

 

 

تتميز كل أمة بصفة تميزها عن غيرها، إذ تتميز الأمة الإنجليزية بالبرود بينما تتميز الأمة الإيطالية بالود والحميمية في حين تتميز نظيرتها الأمريكية بالعملية والبراغماتية، لكنني إحترت حين نظرت لأمتنا العربية وثقافتها المعاصرة، لم أعرف بماذا تتميز هذه الثقافة عن غيرها بعد أن تخلت عن مقومات هويتها، وجدتها خليطاً من ثقافات الأمم، فيها من الثقافات الآسيوية والأفريقية الشيء الكثير، سواء في مجال الإيمان بالخزعبلات والأوهام والأساطير والأحاجي والشعوذة رغم أنها تعيش في الالفية الثالثة او إيمانها بجلال القائد والهامة وقدرته على مواجهة الأعاصير والتحديات بصلابته الفذة وقدرتة الخارقة، لكنها تميزت أيضاً بقدرتها الكبيرة على تحويل الهزائم الى انتصارات والخيبات الى نياشين وأوسمة نصر.

 

لن أذهب بعيداً في تحليل تقافتنا، فأنا إبنها ولا زلت فخوراً بكوني عربياً، لكنني أشعر بالاشمئزاز من الكثير من السلوكيات غير المبررة وغير المفهومة في هذه الثقافة، وسأسوق بعض الامثلة التي سأحصرها فيما أسمية بثقافة الصوت العالي، وسأبدأ حديثي بالاشارة الى مسألة استخدام الصوت العالي في مهرجاتنا، ويحضرني في هذا المجال اختراع او اكتشاف لم تبدعه غيرنا من الامم الا وهو نظام المهرجانات الخطابية التي يقوم خلالها مجموعة من الوجهاء والمسؤولين بالقاء خطبهم الرنانة والتي لا تتفق غالباً مع الذوق العام، حيث يقوم هذا الرجل الذي يلبس الملابس العصرية بإستخدام يديه وعيونه وكل معالم وجهه للتعبير عن وجهة نظره بكل عنف وقوة ضارباً المنصة بيديه مهدداً الامبريالية من جهة ومحذراً الخارجين على أعراف شعبنا من جهة اخرى، صارخاً بأنه سيضرب بيد من حديد .. الخ من المهاترات الخطابية، والمفاجى او بالاحرى من المأساوي وجود حضور مرغمين على المشاركة في هذه المهرجانات الخطابية الحزينة.

 

من عاداتنا المرتبطة بالصوت العالي حوارنا مع الجنسيات الأخرى من الأجانب حيث نلجأ لاستعمال الصوت العالي للإعراب عن ثقتنا الزائدة بالنفس وللإعراب عن إيماننا بان الأجنبي سيفهمنا أكثر كلما علا صوتنا، بل نبالغ أحيانا ونستعمل ايدينا لإقناعه بضرورة ان يفهمنا، فترانا نمسك به من كتفه او يديه لإرغامه على إعطائنا انتابهه كأننا نؤمن في قرارة أنفسنا أننا غير مقنعين.

 

وقد يساعدني المثال التالي في توضيح فكرتي، إذ يقوم بعض الشبان باستخدام سماعات المساجد لتوجيه دعوة ما او نداء ما للمواطنين في المدينة، وقد يقومون بذلك في منتصف الليل او الصباح الباكر، ولا أعلم لماذا يقومون بالصراخ بأعلى اصواتهم مع العلم انهم يعرفون ان لا احد من المواطنين يستطيع فهم الصوت المرافق للصدى، ولا يكتفون بذلك، بل يقومون بوضع بعض المنوعات الغنائية الثورية ليتم بث هذه الاصوات والمنوعات عبر اثير المدينة بأسرها ليتم فرض هذا الصوت بالقوة على جميع المواطنين بشكل لا يتيح أي هامش للحرية، ألم يتساءل هؤلاء الشبان عن سبب عدم التفاف المواطنين حولهم! أليس ذلك بسبب ممارستهم لهذه السياسات التي ُتبعدهم عن نبض المواطن وهمومه الاقتصادية والاجتماعية! ثم الا يقتنع هؤلاء الشبان ان استخدام الصوت العالي ُمنفر ومزعج للغاية ولا يوجد من يرغب بالاصغاء اليه! لا استطيع ان أكبح جماح سعادتي حين سمعت ان شبكة الاذان الموحد في المدينة قد تعطلت، إذ تحررنا اخيراً من شبح الاستيقاظ على الاخبار المأساوية في الصباح الباكر او الليل المتأخر، لقد قلتها مرارأ: لست في عجلة من الامر لأعرف آخر الاخبار، ستأتيني الاخبار بشكل او بآخر، وليس هناك من متعة بكوني أول من يعرف الاخبار، ليست برستيجاً عظيماً ولا شرفاًُ عظيماً، أنا انسان بسيط يرغب أن يحيا حياته بهدوء وطمأنينه، ومن حقة الاستمتاع بحريته في منزله دون وجود من يعتدي على هذه الحرية باستخدام صوته المزعج او حتى الجميل، إذ قالها أحد المفكرين الاوروبيين قبل قرون طويلة: تنتهي حريتك عندما تبدأ حرية الآخرين، هذا فضلاً عما يرافق هذا الازعاج المتواصل من بث للرعب والخوف والقلق والتوتر النفسي في نفوس المواطنين المتعبين أصلاً، إن هذه الأعمال تساهم بشكل كبير في تشجيع المواطن على الهجرة الى أي مكان في العالم يقول له أهلأ وسهلاً بك، وهنا لا يحق لنا التساؤل عن سبب هروب اصحاب الاموال من مدينة نابلس الى غيرها من المدن سواء الى مدينة رام الله او الى خارج الوطن كلياً.

 

ويمكنني إعتبار مظاهراتنا مناسبة جيدة للتعرف على ثقافة الصوت العالي بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، حيث يقوم كل من يحمل مكبراً للصوت بالتفوه بعبارات وجمل تثقب الآذان ظاناً ان الحق يعلو بعلو صوته، من جهة أخرى، يحمل عشرة او عشرون شخصاً مكبرات للصوت في مظاهرة واحدة، وتتحول المظاهرة الى شيء آخر يمكن تسميته بأي شيء آخر باستثناء مسمى مظاهرة، يصرخ فيها كلٌ على ليلاه ولا يفهم أحد من هذه المظاهرة شيئاً بسبب تراكم الاصوات القادمة من عشرات السماعات، أما جنازاتنا فهي مشابهة لمظاهراتنا، صوت عالٍ وهتافات رنانة صاخبة، في حين نرى جنازات العدو هادئة مليئة بالمشاعر والدموع المعبرة عن الضعف الانساني أمام جلال الموت ورهبته، ترانا في جنازاتنا نصرخ مهددين متوعدين، ولا يستطيع أي مشاهد غربي لهذه الجنازة إلا ان يشعر أن هذا الشعب قوي جداً ويستطيع التحمل والاستمرار إذ لم تستطع هذه المآساة ان تدفعه للحزن، وتنطلق مئات الرصاصات في مواكبنا الجنائزية مثيرة الرعب والخوف في قلوب من يشارك فيها، إنها فعلاً ثقافة متنامية للعنف.

 

ومهرجاتنا الطلابية في جامعاتنا الفلسطينية مثال آخر على سيطرة ثقافة الصوت العالي على شريحة لا بأس بها من أبناء المجتمع الفلسطيني، إذ تقوم عدة كتل طلابية بإعداد ما يسمى حفلات التخرج الطلابية، حيث تصدح مكبرات الصوت بكل المنوعات الغنائية التي لا تتناسب مع مناسبة التخرج في حين تنهمر الخطابات القوية التي يعانق صوتها عنان السماء، ولا تخرج الفقرات الفنية والمسرحية عن هذا السياق، والمصيبة الكبرى هي توريث هذه الثقافة من جيل لآخر، إذ تأتي بعض الكتل الطلابية بأطفال بعمر الزهور، يقومون بتقديم فقرات خاصة، تصرخ فيها الزهرات الصغيرات بأعلى أصواتهن (وفقاً لتعليمات المخرج)، لم ألاحظ تغيراً ولو طفيفاً في ثقافة المهرجانات الطلابية منذ عقدين حتى الآن، وكأن العالم يتوقف عند لحظة إبداعية واحدة ولا يستطيع التقدم فيها الى الأمام، أم هل يقوم الجيل الجديد من معدي هذه المهرجانات بالاطلاع على ما قام الجيل السابق بعمله ثم يقومون بتكراره!

 

أما آن لنا أن نستيقظ من سباتنا! أتمنى ان نتعرف على ثقافات العالم وأن نخرج من البوتقة الضيقة التي نعيش فيها ونقتل ثقافتنا فيها، فلنقرأ الادب العالمي ولنشاهد البرامج الثقافية التي تزخر بها العديد من الفضائيات لنتعرف على أنفسنا قبل كل شيء، إذ ان الطريق الى تطوير الذات غالباً ما تبدأ بالتعرف على هذه الذات كما قال الفيلسوف الاغريقي، سقراط: إعرف نفسك.

 

***

أضف تعليق
تغيير الصورة
تعليقات الزوار

1

خليل شقيرات، المانيا
كلمات من ذهب
تصميم وتطوير: ماسترويب