نابلس اكثر حناناً
عدد القراءات: 1915

 بينما كانت دوريات الاحتلال تدخل مدينة نابلس قبل بزوغ فجر السادس عشر من تشرين الثاني لهذا العام، كانت السيارة تتجه بي الى الجانب الآخر من ضفة نهر الاردن للتوجه الى بلدان الضباب والبرد الدائم، تذكرت حينها يوم خرجت في مثل ذلك اليوم مغادراً مدينة نابلس عام 1988 متوجهاً للدراسة في مدينة دمشق بينما كان المجلس الوطني الفلسطيني يعلن قيام الدولة الفلسطينية، توجهت الى الحواجز الاحتلالية المنتشرة بكثرة في الطريق الى جسر الاحزان، راودني سؤال بينما كنا نتجاوز هذه الحدود التي تقسم الوطن الى اشلاء متناثرة، ما هي الاجراءات الطبية المتوفرة في الاماكن التي المحصورة بين الحواجز، خاصة في المناطق الموجودة في الاغوار، قد يموت المواطن بينما ينتظر سيارة الاسعاف او بينما يقوم الجنود بتقصي الحقائق او بفحص الاوامر العسكرية التي تسمح او لا تسمح لهم بتسهيل دخول الاسعاف في حالات الطوارىء وأقصد هنا المسافرين الذين لا حول لهم ولا قوة.

 

دخلت مدينة عمان بعد اقل من اسبوع على التفجيرات الارهابية التي تعرضت لها المدينة، فوجئت بنبض الحياة المنبعث من كل مكان من مرافق المدينة الكبيرة التي استطاعت لملمة جراحها واستأنفت حياتها بشكل معتاد، أسرعت الى الشوارع التي تركت فيها ذكريات جميلة قبل بضعة عشر عاماً، اسرعت الى منزل خالتي حيث حملت معي قرصاً مدمجاً مليئاً بالصور القديمة جداً للعائلة منذ خمسين عاماً تقريباً، دعوتها وابناءها لرؤية الصور التي جلبتها والتي تعود بنا الى حقبة رومانسية من تاريخ العائلة.

 

استرجعت الماضي لبرهة صغيرة ثم توجهت في اليوم التالي الى المطار، كان من دواعي سروري ان يجلس الى جانبي رجل ارمني من أرمن مدينة القدس، سألته عن وضع الطائفة والظروف التي تعاني منها، اشعر بالحزن والالم على ما جرى لهذه الامة الارمنية عام 1915 حين تعرضت للطرد والابادة الجماعية على يد الاتراك وذلك حين اقترفت الدولة العثمانية مجازر كبيرة في حق الارمن وقامت بتشريدهم في كل بلاد العالم، استذكرت القواسم المشتركة بيننا وبين الارمن، قواسم التشرد والابادة الجماعية والقهر والابعاد.

 

لحظة دخولي الاجواء البريطانية، وبينما كانت عجلات الطائرة تلمس مدرج المطار الكبير المسمى بمطار هيثرو، تذكرت عذابات أهل الهند ومصر وباقي المستعمرات البريطانية، تذكرت أراضي مصر التي قتلها المستعمر بفرض زراعة القطن فيها وتذكرت خيرات الهند ُتنهب كل يوم لينعم أهل انجلترا برفاهية العيش بينما يعيش صاحب هذه الخيرات في فقر مدقع، تذكرت كيف قام سكان هذه الارض قبل تسعة عقود من الزمن باستعمار فلسطين ومنحها لليهود وتهجير سكانها منذ ستة عقود في منافي الارض. تعجبت من قدرة هذه الامة الانجليزية التي تعيش في هذه الجزيرة المنعزلة البعيدة عن الشرق والتي تعيش تحت هذا الضباب الكثيف ويلفها البرد والصقيع، تعجبت من قدرتها على التخطيط والتفكير بالتوجه الى المياه الدافئة في شرقنا العربي واستعماره واستعمار الصحارى العربية ومن ثم السيطرة على منابع ذهبه الاسود. لا بد من الاعتراف بدور الثقافة الواسعة لابناء هذه الأمة كما لا بد من الاعتراف بقدرتها على تسخير التفوق الصناعي والحضاري الذي حصلت عليه بعد ثورتها الصناعية في فرض هيبتها ونفوذها على شعوب العالم الضعيفة التي فشلت في اول معركة لها مع هذه الامة المتفوقة صناعيا وتقنياً في حين كنا نعيش في عالم الغيب والاسطورة والخزعبلات التي اورثنا اياها الحكم التركي الذي عزلنا عن التفاعل الحضاري والثقافي مع العالم الخارجي طيلة فترة حكمه والتي استمرت اربعة عقود كاملة.

 

هبطت بنا الطائرة مرة اخرى في احدى المدن الاسكتلندية، هذه المقاطعة التي رفضت الاحتلال الانجليزي فترة طويلة من الزمن إلا انها استسلمت في النهاية لقدرها ووافقت على الانضمام للتاج الانجليزي الذي مارس شتى اشكال تبديد الهوية الاسكتلندية واللغة الانجليزية.

 

توجهنا للركوب في السيارة التي فوجئت بوجود السائق على جانبها الايمن بدلاً من الأيسر كما هو معتاد في معظم دول العالم باستثناء دول رابطة الشعوب المستقلة عن الحكم البريطاني (الكومنولث)، سيارات قديمة الطراز تنتشر في كل مكان، انها سيارات الاجرة المحدثة والتي يغلب عليها الطابع الكلاسيكي المتناسب مع هيبة وبرستيج المملكة والتاج البريطاني، وحين استفسرت عن سبب وجود السائق على هذا الجانب من السيارة، اجابني أحدهم ان السبب يعود الى العربة الخشبية التي كانت تجرها الخيول، إذ كان السائق يقوم بقيادة العربة بيده اليسرى بينما يسهل عليه سحب سلاحة بيده اليمنى واطلاق النار على اللصوص والمعتدين بسرعة، ومهما يكن السبب فقد كانت فكرة وجود السائق على الجانب الايمن من كابينة القيادة مسألة مثيرة للغرابة ومدعاة للاهتمام.

 

على الرغم من المطر الغزير والمنهمر يومياً إلا ان المدن البريطانية تتميز بقدرتها على امتصاص المياة وتسييرها في اتجاهات واماكن مناسبة لتجميع المياه بشكل لا يترك الشارع مبللا، ويمكننا القول ان هناك بلاداً مؤهلة فنياً لسقوط المطر في حين تنقلب الحياة الى مآس في بلدان اخرى لم تتأهل بعد للمطر كما هو الحال في مدينتنا الحبيبة، حيث الشوارع ليست كالشوارع والارصفة مكسرة والمناهل الصحية قليلة وقد تكون مغلقة بعض الاحيان مما يسبب تجمعاً عشوائياً للمياه في هذا المكان او ذاك.

 

تصاميم المباني البريطانية جميلة وخاصة تلك المباني التي تم انشاؤها على شكل اكواخ صغيرة تحيط بها الاشجار الموحشة من كل جانب، شاهدت اكواخاً تحيط بها اغصان ملتوية مثيرة للخوف تمتد اغصانها بشكل يشبه اظافر الساحرة الشريرة في رسوم الكرتون المتحركة وأفلام هاري بوتر الذي تنتشر دعايات افلامه على الباصات ذات الطابقين والمميزة بلونها الاحمر وعراقتها. تتميز هذه البيوت ببنائها الخشبي وضيق غرفها وكثرة كراكيبها، لا اعرف مصدر هذه الميزة الاوروبية التي تميز الكثير من البيوت الغربية، الاحتفاظ بالكراكيب مهما كانت تافهة وغير ذات أهمية.

 

تعرفت على مجموعة من السيدات كبيرات السن، وحين الحديث عن كبار السن في الغرب لا بد من الحديث عن نشاطهم والاندية التي ينتمون اليها، والمؤسسات التي ينشطن فيها، والاعمال الخيرية التي يقمن بها، والرحلات التي ينظمنها، والحدائق التي يزرنها، والعلاقات الواسعة التي يتمتعن بها، والنفوذ الكبير الذي يحظين به في مؤسسات المجتمع وشركاته، حظيت بضيافتهن عدة ايام، قامت هؤلاء النسوة بعمل كل ما لا يمكن تصور قيامهن بعمله، نظمن ورش عمل، استعرن اجهزة الكمبيوتر واجهزةً لعرض الصور، نظمن المعارض المتجوله، وعقدن عدة اجتماعات لتنظيم الفعاليات، وشجعن المواطنين على التعاون معهن في مشاريعهن، وغيرها الكثير، تساءلت بينما كنت انظر لاحداهن وقد بلغت قرابة السبعين عاما بينما كانت تتمتع برقصة اسكتلندية فلكلورية جماعية، تساءلت عن السبب الكامن وراء انطلاق هذه السيدة للحياة بينما تجلس مثيلاتها في المنزل في بلادنا العربية، تمنيت ان يمنحني الله شيخوخة تشبه شيخوخة عجائز اوروبا، حيث الاسترخاء والرفاهية والرعاية الطبية.

 

لم يكن من المتاح الحصول على مقهى للانترنت في مختلف البلدان البريطانية التي زرتها حيث تم تزويد المنازل بشبكات للانترنت تعفيهم من التوجه الى مقاهي الانترنت، ومن المأساوي في تلك البلاد غروب الشمس في الساعة الرابعة عصراً وشروقها في الثامنة صباحاً، واستمرار هطول المطر او برودة الطقس المضجرة التي تؤثر سلباً على معنويات المواطنين وحالتهم النفسية.

 

زيارة البرلمان الاسكتلندي كانت مفيدة حيث تعرفت على النظام الديمقراطي المتبع في هذه المقاطعة وآلية صناعة القرار، رافقتنا احدى عضوات البرلمان من صديقات مستضيفاتنا، ثم دعتنا لزيارة مكتبها الذي فوجئت بحجمه، كان مكتباً متواضعاً لا تتجاوز مساحته الاربعة امتار مربعة، تعمل فيه مع مساعدها الذي يشاركها هذه المساحة الضيقة، فوجئت بحجم المهام والاعمال التي تقوم بها، إذ تتجاوز هذه المهام والانجازات قدرات المساحة المكانية المتاحة، تذكرت حينها كيف يصر مدراؤنا العامون ووكلاء وزاراتنا الفقيرة على الحصول على مكاتب فارهة كبيرة مزودة بكافة احتياجات حياتهم المرفهة، قامت هذه السيدة – عضوة البرلمان- بشراء ساندويش سريع إذ لم يسمح لها وقتها بتناول الطعام معنا في كافتيريا البرلمان، كما قامت بخدمة نفسها بعمل كاس من القهوة، لم اسمع صراخها على مستخدميها كما يصرخ صغار موظفينا في مؤسساتنا الفقيرة على الأذنة طلباً للشاي والقهوة لا لشيء إلا للتفريغ عن الكبت والقمع الذي يعانونه في مختلف مرافق حياتهم ولا يجدون سوى هذا الآذن متنفساً لصغارة نفوسهم وضعف شخصياتهم.

 

تتمتع اسكتلندا بخيرات طبيعية ومائية كبيرة، كما لا يسكن هذه المقاطعة الكبيرة سوى خمسة ملايين بينما يسكن مقاطعة انجلترا خمسين مليوناً، وتتمتع هذه المقاطعة بتاريخ خصب شهد معارك وحروباً طاحنة مع المستعمرين الانجليز الذين فرضوا لغتهم بالقوة على السكان الاصليين، كما قام الانجليز خلال القرون الطويلة الماضية بمحاولات كبيرة لتبديد هوية هذا الشعب وتراثة العريق، لا زال الاسكتلنديون يفخرون بتاريخهم وأمجادهم على الرغم من تبعيتهم الحالية للتاج البريطاني وعلى الرغم من استعمالهم للغة الانجليزية بدلاًَ من لغة ارض الغال، اللغة الغيليية، لغة السكان الاصليين، حتى الشوارع تم تغيير أسمائها لأسماء انجليزية بدلاً من الاسماء الاسكتلندية، لكن، مهما غير المستعمر من هوية البلد، لا زال أهل اسكتلندا يستمتعون بلبس ملابسهم التراثية ويشدون بأجمل الالحان المنبعثة من القربة الاسكتلندية الشهيرة يعزفها رجل يلبس ملابساً تراثية تقليدية ذات اللون الاخضر، وتتميز هذه الملابس بلبس الرجل للتنورة التي يسمونها - الكلط-، بينما يفخر الجميع بلبس اللون الاحمر المزركش بالعديد من الالوان الاخرى، احمراً قانياً كلون الدم الاسكتلندي الذي ُسفك دفاعاً عن استقلال اسكتلندا وحريتها عبر القرون الطويلة الماضية من الصراع في سبيل الحرية والانعتاق.

 

ومما لفت انتباهي بشدة هو المشاريع الخيرية الصغيرة الموجودة بكثرة سواء في اسكتلندا او انجلترا، حيث تقوم الكنيسة بتقديم جزء من مبناها لمجموعة من الناس يقومون بادارته على شكل مقهى او دكان تباع فيه بعض البضائع الخفيفة او تقدم فيه بعض الخدمات للمواطنين او يقوم احدهم بإدارته للحصول على عوائد مالية يتم رصدها لصالح المحتاجين او لصالح مشاريع خيرية وانسانية كثيرة، ليست فقط في بريطانيا بل في امكنة اخرى من العالم، زرت محلاً تجارياً في الطابق الاول من مدخل احدى الكنائس حيث شاهدت مطرزات فلسطينية تقوم احدى السيدات بتكريس وقتها لبيع هذه الاعمال اليدوية الفلسطينية لصالح نساء المخيمات الفلسطينية، كما زرت مقهىً تديره مجموعة من النساء المتقاعدات اللواتي يستمتعن بوقتهن في إدارته وجمع العوائد والارباح التي لا يحتجن لها ليقمن بعد ذلك بدفعها لتمويل احد المشاريع الخيرية، كما زرت قاعة كبيرة تابعة لاحدى الكنائس، قام أصدقاؤنا الاسكتلنديون بتنظيم حفل اسكتلندي خيري تراثي تقليدي فيها، قامت فرقة اسكتلندية باحياء هذا الحفل بينما قامت السيدات بجمع التبرعات لصالح مشاريعهن الخيرية، يمكنني تشبيه هؤلاء النسوة بخلية النحل التي لا تهدأ ولا تكل ولا تضجر من العمل، لديهم تعلق كبير بالحياة تمنيت ان اجده لدى الشبان من ابناء بلادي.

 

سررت حيت التقيت بمجموعة من الجيل القديم من النشطاء الذين قدموا الى مدينة نابلس قبل خمسة وعشرين عاماً على خلفية تعرض رئيس بلدية نابلس المنتخب، بسام الشكعة، لمحاولة اغتيال اودت بساقيه، جاء هؤلاء النشطاء برآسة جورج جالاوي، العضو الحالي في البرلمان البريطاني، حيث قاموا بتوقيع اتفاقية توأمة مع مدينة نابلس كردة فعل مباشرة على الاعتداءات التي قام بها مستوطنون على رؤساء البلديات الفلسطينية، ثم قام هذا الوفد باصطحاب رئيس البلدية الى مدينة داندي في اسكتلندا عام 1981 حيث تم تركيب ساقين اصطناعيتين له، بينما احتفلت به مدينة داندي، حيث قام وبمراسم رسمية، برفع علم فلسطين على مدخل المبنى البلدي، وبقي هذا العلم مرفوعاً منذ ذلك الحين حتى الآن رغم محاولات إزالته من قبل المعادين للفلسطينيين من الصهاينة واصدقائهم.

 

زرت بعض مدارس اسكتلندا، ولم يعجبني انضباط التلاميذ في الصف، يا إلهي ما اصعب الحرية! كم يعاني المدرس في هذه البلاد!، يضحك التلاميذ اثناء الدرس ويتحدثون الى بعضهم بعضاَ بينما يستمر المدرس في القاء محاضرته، لم استوعب هذا النظام، لكن المدرس اخبرني ان الطلبة وعلى الرغم مما يبدو من لا مبالاتهم إلا انهم يدرسون جيداً بشكل عام ويرغبون بالتعلم، كما اخبرني ان هذا النظام التعليمي قد يكون اكثر استرخاءاً ومرونة، شاركت في احدى حصص التربية الاسلامية لطلاب من الديانة المسيحية، حيث تقوم هذه المدرسة بتدريس مادة الدين الاسلامي لطلبتها، أعجبتني الفكرة وفوجئت من حجم المواد التي يتم تدريسها، يدرس الطلبة المسيحيون اركان الاسلام واركان الايمان وقضايا اخرى كالمرأة والحجاب وغيرها من الامور التي يستمتع المسلم حين يعرف ان غير المسلمين يدرسونها، كان الهدف من وراء تدريس هذه المادة هو تكوين تصور موضوعي غير متعصب تجاه الاسلام في مجتمع ُيعتبر الدين الاسلامي فيه الدين الثاني في الدولة، لذلك لا بد من تدريب الطلاب على التعايش والتكيف والتسامح مع تواجد هذا الدين على الاراضي البريطانية.

 

مايك، صاحب المنزل الذي حللت ضيفاً عليه، رجل كرس حياته للدفاع عن القضايا الانسانية، ينهض باكراً ليضع طعام العصافير في زاوية خاصة من الحديقة، سألته، اين تضع عصافيرك التي تعد لها الطعام؟ إنني اراك كل يوم تقوم بوضع البذور للعصافير لكنني لا أرى اقفاصفها، قال لي: إنني لا احتفظ بأقفاص لانني لا اضع العصافير في الاقفاص، إنني اشتري البذور للعصافير واضعها في الحديقة لتأتي العصافير وتتناول هذه البذور وترحل بينما استمتع بمشهد تناولها لطعامها وهي تنقض على البذار وتزقزق وتغني، ليس من الضروري ان نمتلك ما نحب، بل قد نحبه ما لا نمتلكه اكثر ان اطلقنا سراحه.

 

القيت عدة محاضرات في العديد من المدن الاسكتلندية والانجليزية، كان الإهتمام بمعرفة ما يجري في فلسطين مثير للاهتمام، حرصت دوماً في محاضراتي على تحميل البريطانيين مسؤولية ما حدث ويحدث للفلسطينيين في الاراضي المحتلة، طالبت في هذه المحاضرات بضرورة قيام المجتمع البريطاني والحكومات البريطانية المتعاقبة والبرلمانات المنتخبة بالاعتذار للشعب الفلسطيني عن المآسي التي لحقت به منذ قرابة التسعين عاماً حين قام احد الانجليز بتقديم وعد لا يحق له ان يعد به، حين قام بتقديم أرض لا يملكها لشعب لا ينتمي اليها، واستكمل هؤلاء الانجليز خطيئتهم مع المجتمع الفلسطيني بالتواطىء في مؤامرة ترحيله من ارضه للشتات والمنفى، لم أنس ذلك قط طيلة تجوالي في هذه الديار الانجليزية، يجب ان تقوم بريطانيا بإعادة بناء المجتمع الفلسطيني ومؤسساته، كما يجب عليها ان تقوم بترميم الخطاً التاريخي الذي اقترفته، لم اخجل عن ذكر ذلك امام طلبة الجامعات البريطانية، ذكرت لهم ان آجدادهم كانوا قد قتلو آلاف الفلسطينيين دون وجه حق، كما ذكرتهم ان المساعدات التي تقدمها حكومتهم لنا ليست سوى فتاتاً مما سلبتنا اياه من الاراضي الخصبة والسواحل الجميلة.

 

برد قارص لا ينافسه سوى برود الانجليز وعدم مبالاتهم، علاقات عابرة، بعيدة عن الدفء، مواطنون قتلت روحهم التوجهات المادية في الحياة، تنقلت بين العديد من المدن، أحمل هم الوطن على كتفي، تنقلت بين مدن الصقيع والبرد دون كلل، حاملاً جرحي النازف، هاتفاً في ذلك الصقيع: ايها المارون على جسدي، استيقظوا، أما آن لكم أن تعرفوا! لقد قتل أجدادكم حلمي، وصادروا ارضي وشردوا شعبي، وها انتم تركضون الى الاسواق لشراء هدية عيد الميلاد، أي ميلاد هذا الذي تعبدون! وأي مسيح ذلك الذي تقدسون! لقد ُقتل المسيح الف مرة على أرضي وانتم لا تدركون، اخرجوا من حمى الحياة الاستهلاكية، واستيقظوا، فلا زال في الحياة وقت لتعتذروا.

 

اشتقت لدفء مدينة نابلس وأهلها، اشتقت لاجتماع العائلة في ليالي الشتاء البادرة حول الموقد القديم، غادرت لندن مدينة الضباب، كان الضباب قد احاط بقلبي، ضاق صدري من هذه المدينة الكبيرة جداً، اشتقت لمدن الحزن، لم استطع الخروج من جسدي، لم انسجم في حياة لهوهم وبذخهم ورفاهيتهم، هذا العالم ليس لنا، ولا ارغب بالعيش فيه، انتظرت قدوم موعد الاقلاع للوطن، ذهبت باكراً للمطار رغبة بتقصير فترة الانتظار، لكنها طالت، تأخرت الطائرة ساعة عن الاقلاع، لكنها أقلعت أخيراً، وداعاً أيها العالم الحديث، المتسارع، المشغول دوماً بحياته اليومية، وداعاً ايها العالم الذي لا يستطيع الوقوف لحظة عن العمل، اشتقت لروحانياتي في غرفتي الصغيرة الدافئة في ذلك المكان البعيد من الشرق الاوسط المنسي، وعدت الى مدينتي التي اشتقت اليها.

 

من المنعش ان أعود لمدينة نابلس بينما تقوم شرطة المدينة وبعض اجهزتها الامنية بمحاولات لفرض النظام والقانون وتنهدت حين رأيت هذه الجهود المبذولة لترتيب الوضع في المدينة، وتنفست الصعداء حين رأيت الحياة تدب فيها من جديد، وتذكرت اغنية عذبة كثيراً ما غنيتها: لسه الدنيا بخير.

 

مطار لندن، 1/12/2005

 

أضف تعليق
تغيير الصورة
تعليقات الزوار
تصميم وتطوير: ماسترويب