جولة فيما تبقى من الوطن
عدد القراءات: 1653

 

بقلم: علاء ابو ضهير

 

لم يتوقف لينظر إلينا كما هي عادة الأطفال أن يفعلوا كلما مر بقربهم زائر أجنبي ليلحقوه بالكلمات المعهودة: صورني صورني، او: شو اسمك؟ بل كان منهمكا مع بعض زملائه من الأطفال الذين لم يبلغوا العاشرة من  العمر للوصول الى مبنى لجنة إحياء البلدة القديمة في مدينة الخليل، تلك اللجنة التي تشرفت بزيارتها والتعرف على مشاريعها الطموحة قبل ثمانية أعوام، مشاريع تصب في خدمة البلدة القديمة من الخليل، أو بالا حرى، ما تبقى من هذه البلدة القديمة جداً، القديمة قدم سيدنا إبراهيم عليه السلام وأبنائه، والتي مرت على أرضها وأزقتها أجيال وأجيال تشهد لهذه الأجيال نعومة بلاط شوارعها الذي يفوق نعومة الخد من كثرة ما مرت به.

 

استمر هذا الطفل الذي يبلغ العاشرة من عمره في طريقه غير مبال بهؤلاء الزوار الأجانب، استمر في طريقه للوصول إلى المكان الذي يتم فيه توزيع بعض الحساء، كان الطفل آخر يحمل دلواً صغير الحجم مكشوف الغطاء بينما يحمل في يده الأخرى رغيفا او رغيفين، كان مبتسماً لحصوله على هذه الوجبة غير الدسمة ليقتات بها وأهله من ألم الجوع، تساءلت واندهشت لهذا المشهد، يا إلهي ما الذي يجري هنا! لقد تراجع المستوى المعيشي لأهل هذه المنطقة ووصل الى حد لا يمكن تحمله، لقد كانت هذه المدينة أكثر مدن الضفة الغربية نشاطاً اقتصادياً وصناعياً وتجارياً، قيل لنا أن أهل الخير يقومون يومياً بتوزيع بعض الحساء على الفقراء والمحتاجين، لاحظت جلبة لا بأس بها في المكان، لم يعبأ الأطفال بي ولا بالوفد الأجنبي الذي نصطحبه ليزور هذه البقعة المنسية من العالم، حي صغير لا يضاهيه حي في الشرق الأوسط سخونة وخطورة، حيّ يختصر النزاع والصراع في كلمات قليلة، عنصرية ورفض للآخر، تجولنا قليلاً في الحي المنسي، اقتربنا من المسجد الحزين، المسجد الوحيد في هذا العالم الذي يصلي فيه المسلمون واليهود ضمن جدول زمني معقد. اقتربت من المسجد بحذر، كانت مشاعري غريبة وأنا اقترب منه، شيء ما يدفعني للابتعاد عنه، كيف أقترب وحراب الغزاة مشهرة في وجهي! لا، لا أريد الدخول، ترددنا بضع دقائق ونحن نتجادل أمام أعين الجنود، هل ندخل أم لا، اندفعت إحدى الزميلات قائلة، يجب أن ندخل فقد لا نستطيع الدخول في المستقبل، نزلت هذه الجملة على قلبي كالصاعقة، يا إلهي، أترى سيأتي ذلك اليوم الذي نتحدث فيه عن زيارة قمنا بها إلى الخليل كما يتحدث والدي عن زيارة قام بها إلى موسم النبي روبين أو موسم النبي صالح قبل نصف قرن أو أكثر، حين كانت البلاد بلاد، وحين كان الوطن لا يزال عربيا.

 

دخلنا المسجد، وقبل الدخول أسرعنا للوضوء، فالصلاة في هذا المسجد قد لا تعادلها صلاة في مسجد مشابه باستثناء المساجد الثلاثة المقدسة، لكن هذا المسجد يتميز عنها جميعاً، إذ لا تستطيع أن تشعر بالأمان رغم تواجدك في بيت الله، هذا المكان المقدس والمحرم، تذكرت، وأنا أقف بالقرب من منبر القائد نور الدين زنكي، ذلك المنبر التوأم له في المسجد الأقصى والذي تم إحراقه على أيدي ما يسمونه متطرف إسرائيلي نال عقابه لاحقاً بالحبس عدة أيام ثم تم الإفراج عنه بغرامة زهيدة، فإحراق مساجد المسلمين عمل لا يعاقب عليه القانون ولا يحرمه الدين.

 

تجولت في المسجد، وحاولت ان أمتع ناظري بما يحتويه من تحف فنية ومعمارية، لم يرافقني أي شك بأن عمارة هذا المسجد عربية إسلامية، فكيف يحاول الطغاة تهويدها! كيف يصلي المصلون بينما يتمشى خلفهم الجنود شاهرين سلاحهم، وما هي المشاعر التي تراود المصلي وهي يركع على الأرض التي سيأتي بعض المستوطنين ليدوسوا عليها بعد يوم أو شهر! مشاعر غريبة لم يشعر بها أحد باستثناء أهل البلدة القديمة من الخليل من ورواد هذا المسجد، وهم قلة من كبار السن الذين يستطيعون تحمل مشقة التفتيش اليومي خمسة مرات عند رغبتهم بأداء كل صلاة بعد كل أذان.

 

استمر عدد من الأطفال في السير أمامنا وخلفنا، يحملون دلاءهم ويركضون حتى لا يبرد الحساء، سألني أحد الأصدقاء الأجانب، ماذا يحمل هؤلاء الأطفال في دلاءهم، قلت: هو غذاءهم، يضعون فتات الرغيف في الحساء ويتناولونه كل يوم، لقد ولد هؤلاء الأطفال وترعرعوا على هذه الحالة من شظف العيش، لقد عانى هذا الحي من فرض نظام حظر التجول والأسر المنزلي منذ بضعة عشر عاماً ولا من منقذ في هذا العالم الصامت، قيل لنا أن مجموعة من المراقبين الدوليين تقوم بمراقبة الأوضاع، وحين استنجدنا بها لتسهيل مهمة زيارتنا للحي الذي يستوطن فيه المستعمرون اليهود الحي العربي، تذرع المراقبون بحجج واهية فهمنا منها عدم قدرتهم على تقديم أي عون لنا سوى النصح بالعودة من حيث أتينا، أخبرونا أنهم سيكتبون المزيد من التقارير لمؤسساتهم ودولهم، يا له من جهد مشكور ذلك الذي يقوم به هؤلاء المراقبون، كتر الله خيرهم. آلمنتني زيارتك يا عزيزتي، فحالك ليس بأفضل من حال مدينتي، يبدوا أننا جميعاً على مذبح الوطن سائرون.

 

رجعت بذاكرتي إلى العهد الذي مضى، حين كنت أتجول في مدينة الخليل وأشارك في تنظيم حملات تطوعية دولية لتنظيف شوارعها القديمة، حين كان المستوطنون ولا زالوا يعتدون على السكان الأصليين ويقلبون لهم بضائعهم وخضارهم، استمتعت بالمكوث في هذه المدينة التي يتحلى سكانها بطباع دمثة وأخلاق عالية، كما تميزت هذه المدينة بتضامنها الاجتماعي في الملمات والأزمات، أدهشتني قدرة عائلات هذه المدينة على تسخير علاقاتها العائلية والاجتماعية مع الجزء المشرد خارج الوطن في الشتات والمهجر، حيث استطاعت هذه العائلات ترتيب وتنظيم الكثير من الأمور المتعلقة بالمدينة من خلال تكافل الجزء المهجر والنازح من أهلها وارتباطهم الوثيق بمدينتهم، تجلى ذلك في دعم عشرات المشاريع الخيرية التي تتميز بها مدينة الخليل هذه المدينة التي قلّ أن يشاهد فيها المرء متسولاً أو محتاجاً، بل تميزت بكثرة مدارسها على عكس مدن الضفة الغربية ويعود ذلك إلى التبرعات المستمرة من أبناء المدينة المقيمين في الأردن والشتات عموماً.

 

سرت في شوارع مدن الضفة سير المودع الذي يشعر بأن هذه الزيارة قد لا تتكرر، راودتني هذه المشاعر وأنا أسير في أزقة البلدة القديمة في الخليل، إن هذه البلدة تتحول تدريجياً إلى بلد من هوية أخرى، هوية الغزاة الذين لا هوية لهم، منازلنا أصبحت منازلهم، ولا زالت عملية تهويد واسرلة المنازل تسير على قدم وساق، حواجز حديدية في الشوارع، دخول محدود للسكان، بل دخول مشروط لحملة التصاريح، ما الذي يدفع ما تبقى من سكان فلسطينيين للبقاء في هذا الحي! سؤال ساذج تبادر الى ذهني! لماذا يستمر المواطن الفلسطيني في دفع ثمن كل دقيقة من عمره من دمائه وأعصابه وأمنه وسلامته! من يسمع بمعاناة سكان البلدة القديمة من الخليل سوى أهل الخليل!

 

أكملنا رحلتنا التي لم أقم بمثلها منذ ستة أعوام، أي منذ كان الوطن مفتوحاً للتنقل والسفر، وطأت قدماي ارض بيت لحم وكنيستها، استرجعت ذكريات قديمة، يوم كنت أخيّم فيها مع عشرات المتطوعين الأجانب لأسابيع متواصلة، أحببت رائحة البخور في الكنائس، كنت ممن يستمتعون بإشعال شمعة فيها، وعشقت الاستماع إلى الترانيم في المهد والقيامة، لكنني الآن لم أقم بإنتاج الذكرى، لقد كنت مسترجعاً لها فقط.

 

القيت نظرة على جبل ابو غنيم، ذلك الجبل الذي تظاهرنا عليه قبل ثمانية اعوام حين تمت مصادرته، كان جبلاً جميلاً لا توجد فيه عمارة أو بناية، بل أشجار خضراء ومنظر جميل يشرف على مدينة بيت لحم، فوجئت حين شاهدت ما يشبه المدينة ذات المباني العالية وقد تم بناؤها على تلال هذا الجبل، أصبحت مدينة بيت لحم محاطة بالمستعمرات من كل مكان. أصبحت كانتوناً عربياً صغيراً أشبه بجزيرة وسط بحر من الغرباء.

 

تفاءلنا حين سمعنا عن رحلة محتملة للوطن السليب، قيل لنا أننا قد نستطيع الحصول على تصاريح تسمح لنا بدخوله بصحبة الزوار الأجانب، تزايدت الآمال، وتذكرت يافا، وتساءلت، ترى هل سأرى يافا؟ هذا الحلم القديم، هل من الأفضل أن أرى يافا؟ أم من الأجمل أن تبقى ذكرياتها جميلة دون تلوث! قال لي كل من زارها أن يافا لم تعد يافا، لن تجد الفردوس المفقود ولن تجد الذكريات التي حلمت بها، لن تجد ذلك العالم الأسطوري الذي نسجته في مخيلتك والذي جمعت خيوطه من روايات قالها لك كثيرون، استيقظ من وهمك، كثيراً ما يفضل المرء أن يحيا على الوهم خوفا من مواجهة الحقيقة، وإنا لا املك الجرأة الكافية على مواجهة الواقع، استيقظت صباح ذلك اليوم، وجلست على شرفة الفندق أتجاذب الحديث مع صديق عشق يافا وقصصها وتاريخها، تحدثنا عن لذة الانتظار ومتعته، والخوف من مواجهة المجهول، توقعت أن أستطيع إعادة الزمن في يافا إلى العصر العربي، ولكن يبدو أنني أستطيع فعل ذلك ضمن عالمي الخاص، ذلك العالم الوهمي الذي أحيا به. وأخيرا، استيقظنا من أوهامنا على صوت الواقع القائل أننا لن نستطيع زيارة تراب الوطن في يافا والحصول على حفنة منه يتم نثرها على هذا الجسد حين يوارى الثرى.

 

مشينا قرب الجدار، شعور غريب يساورني وأنا أسير قربه، شعور بالضآلة والصغر، لكنه شعور بالحزن الشديد بسبب الضعف، جدار يفصلني عن قبة الصخرة القريبة البعيدة، يمكنني أن أراها من هنا، من امام جامعة ابو ديس، والتقط الصور لقبة الصخرة خلفي، يا لها من ذكريات تلك التي كانت بالأمس القريب حين كنت ازور المسجد الأقصى وأتجول في البلدة القديمة بحرية، لقد أصبحت ممنوعة علي، تبتعدين عنا الآن يا قدس تبتعدين أكثر، لماذا يصر الاحتلال على حرماننا من كل ما هو إنساني في أعماقنا!

 

 

***

 

 

رام الله، 9 حزيران 2006

أضف تعليق
تغيير الصورة
تعليقات الزوار
تصميم وتطوير: ماسترويب