أمينة وعزيز
عدد القراءات: 2777

 

1988

بقلم: أ عدنان السمان

    اندفع عزيز في سرور غامر من بيت والده قاصداً بيته الكائن في أقصى الحي الغربي من البلدة.. كان يسير بخطوات واسعة واثقة يداعب الهواء الغربي شعره الفاحم الناعم الطويل.. بينما تنعكس أشعة شمس الأصيل على صفحة وجهه الأبيض الوسيم، وهو يندفع صوب بيته ليصل قبل غروب الشمس.. إنه يحب زوجه أمينة، ويغار عليها، ولا يحب أن يتأخر عنها مهما كانت الأسباب.. ولقد كانت أمينة هي الأخرى له محبة، وعليه حانية، ولبيته مخلصة الإخلاص كله.. فضَّلته على كافة زملاء الدراسة الذين تقدموا لخطبتها من كافة مدن البلاد، ومناطقها المختلفة.. وكانت من أكثر الطلبة حماسة له في أيام انتخابات مجلس الطلبة الذي كان من أبرز عناصره وأنشطها طوال سنوات الدراسة.. وكثيراً ما كان عزيز يسألها إن كانت مستعدة للعيش في بلدته، أم أنها تفضّل سكنى المدن.. وكثيراً ما أبدى استعداده للنزول عند رغبتها.. ولكنها كانت دائماً تؤكد له أنها مغرمة بالريف، وأن أحلامها تكاد تنحصر في بستان صغير فيه شجيرات من التين والزيتون والعنب، وبعض أشجار اللوزيات، إضافة إلى مساحة صغيرة  تزرعها بكل ما تستطيع من أصناف  الخضار... وكان عزيز يبتسم في هدوء، ويقول: هل تدرسين السياسة والاقتصاد لتنحصر طموحاتك في حياة كهذه؟ كان بإمكانك أن توفري عليك كل هذا الجهد والعناء، وتختصري الزمن، وتحصلي على "أكبر" شهادة في الزراعة من أمي التي تعرف في هذا الموضوع ما لا يعرفه كثير من المهندسين الزراعيين في البلاد.. فيضحك الاثنان وينصرفان إلى المحاضرة في ثقة وهدوء وأمان... كان عزيز يتذكر كل هذا وغيره من ذكرياته السعيدة، وهو في طريقه إلى بيت عروسه أمينة التي كانت هي الأخرى في انتظاره على أحر من الجمر، فقد تأخر على غير مألوف عادته.. وما إن سمعت وقع أقدام تقترب من البيت حتى أسرعت إلى نافذة مشرفة على المدخل لترى زوجها الذي كان قد بدأ يصعد الدرجات السبع الموصلة إلى باب بيته ليجد الباب وقد فتح.. وليجد أمينة أجمل بنات الجامعة تقف مرحبة به، وهي تحاول أن تخفي القلق الذي استبد بها لتأخره.

    قالت أمينة: تفضل أيها السيد المبجل إلى غرفة الجلوس،  وهيئ نفسك لاستجواب صارم في الحال. أولاً أيها المحترم كيف ترتدي هذا القميص البني على بنطال  الجينز؟ أين قميصك الأزرق الفاتح المخطط الذي ارتديته عند خروجك؟ وعندما حاول عزيز أن يجيبها قاطعته قائلة: هذا أولاً، ثم أين كنت طوال كل هذا الوقت أيها الأستاذ؟ ألم تفكر بمن تركتها في البيت وحيدة؟ أجبني الآن.

    قال عزيز "وهو يبتسم": هل هذا هو كل شيء؟ فردّت أمينة "وهي تحاول تكلّف الصرامة والجدّيّة": أجب الآن عن هذين السؤالين. وأجاب عزيز بقوله: أما سر "القميص" يا أمينة فقد ساعدتُ أمي في عملها، "واندلق" الحليب على قميصي، فلبست قميص أخي.. وهذا هو كل ما في الأمر... وابتسمت أمينة قائلة: أكمل يا حضرة المحترم. قال عزيز: وأما سبب تأخري يا أحلى أمينة فهو أن السيد الوالد قد أصرّ على ذلك، لأنه قرر أن يخوص معي هذا اليوم في حديث خاص جداً.. لقد قررّ أن يقدّم لك هدية زواجنا، فتحدثنا مطولاً حول كل قطع الأرض التي يملكها، واستقر الرأي في النهاية على أن يمنحك قطعة الأرض هذه المجاورة لبيتنا، والتي يسميها أبي، وأهل البلدة "كتف الوادي" وأحب أن أخبرك يا حضرة المحترمة التي أحبها جداً أنك تمتلكين الآن ما مساحته ثلاثة دونمات هنا في "كتف  الوادي" وهي أرض زراعية، وإن كانت بحاجة لشيء من الاستصلاح... اندفعت أمينة نحوه في حنان ومودة ليس عليهما من مزيد، وعانقته قائلة في ثقة ودلال: سنستصلحها معاً يا عزيزي، وسأبدأ منذ يوم غد بتنفيذ الأحلام.. سأجعلها حديث الناس في هذه البلدة.. ولكن قل لي يا عزيز لماذا أهدانا والدك هذه القطعة بالذات؟

    قال: لأنها مجاورة لمكان سكننا..

    قالت: أفهم من ذلك أنه تنازل عن مطالبتنا بالسكن معهم في بيت العائلة.

    قال: نعم.. لقد تنازل عن هذا المطلب، وتنازل أيضاً عن مبدأ انتقالنا من بيتنا هذا إلى بيت قريب من بيتهم، أو إلى أي بيت آخر في قلب البلدة... لقد قال: ومن غير كما أقدر على تعمير طرف قَصيّ عزيز علينا جميعاً من أطراف بلدتنا؟ إنكما جديران بمهمة شاقة كهذه..بارك الله فيكما وعليكما.. أبشري يا أمينة، فلقد تحقق لنا ما أردنا.

    عملت أمينة وعزيز بكل الجد، وساعدتهما في ذلك أم عزيز وأبوه، وأخواه المحبّان الطيّبان رفعت وفداء.. لقد باشروا جميعاً باستصلاح الأرض، وتنفيذ مشروع شبكة محكمة من الأنابيب لري الأرض، وتخطيط البستان، وحفر بئر عظيمة لجمع مياه الأمطار، وتركيب المضخة... واستغرق العمل في ذلك عاماً كاملاً.. وفي الطرف الجنوبي الشرقي من البستان قرر الزوجان منذ البداية أن يقيما مزرعة صغيرة للدواجن.. ولماذا لا يفعلان، والأرض من حولهما واسعة، وعزيمة الشباب كفيلة بتحقيق الأهداف؟ لقد زرعا في البستان كثيراً من الأشجار المثمرة بعد أن أحاطاه بالأشجار الحرجية، وخصصاً مساحة مناسبة لزراعة الخضار. ورأت أمينة أن تلحق جانباً من أرض البستان بساحة بيتها كي تزرعها بأصناف الورود... لقد تحقق حلم أمينة، وابتسمت لها الحياة، وكانت سعادتها تزداد، وفرحتها تكبر كلما كبرت أشجار  البستان، وتشابكت أغصانها.. كانت تقضي جانباً من وقتها في رعاية هذه الأشجار والورود، وتسميدها وسقايتها.. كما تقضي جانباً أخر في  تعهد مزرعة الدواجن التي أحبتها حبها للأشجار والمزروعات الخضراء في بستانها الأخضر... لقد أبدى أهل البلدة إعجابهم الشديد بهذا البستان، وتلك المزرعة، وبهذا البيت المتواضع السعيد المشرف على هذه الجنة الخضراء... وأصحاب المشاتل الذين كانت تتعامل معهم أمينة كانوا هم أيضاً يأتون بين الحين والآخر من أطراف المدينة المجاورة إلى بيت عزيز ليشهدوا تطور هذا العمل الناجح، وليرفدوه بكل جديد من غراس وسماد وتربة خصبة كانوا يحضرونها معهم في أكياس خاصة شبيهة بأكياس الإسمنت... كنت في أحد مشاتل المدينة أزور صديقاً لي يعمل هناك عندما اقترب منه زوجان شابان، وطلبا بذوراً وسماداً، قال لهما صديقي: كل ما تريدان موجود، وسأحضره في الحال.. لكن ألا تريدان أن تعرفا هذا الرجل؟ وأضاف الصديق قائلاً: إنه فلان.. ومد عزيز يده مصافحاً، وكذلك فعلت أمينة وهما يوجهان لي دعوة لزيارتهما في  البلدة.. وقال عزيز باسماً: "الكاميرا" موجودة، ونحن مستعدان لإجراء أي حديث "صحفي" إن رأيت ذلك مناسباً.. قبلتُ الدعوة شاكراً، وانصرف كل منّا لشأنه.

    كان عمل أمينة وعزيز عملاً رائداً في البلدة التي تنبّه أهلها لأهمية موقع"كتف الوادي" فراحوا يستصلحون أراضيهم في تلك المنطقة، ويزرعونها، ويعطونها من جهدهم وعرقهم، فتعطيهم من خيرها أشهى الثمار وأطيبها.. وراحت فتياتها يلبسن "الجينز" أسوة بأمينة، ويعملن في القطاع الزراعي برغبة واندفاع.. وتضاعفت قيمة أراضي هذه المنطقة من كتف الوادي، وأينع ذلك الجزء الذي كان منسيّاً من أراضي البلدة.. وتحرر الناس من خوفهم، وعمر قلوبهم التفاؤل، وعملوا بكل الجد حتى أصبح "كتف الوادي" من أفضل المناطق الزراعية في البلدة، وفي المنطقة كلها... وابتسمت الحياة أكثر وأكثر لأمينة عندما رزقت بمولودها البكر "أمين".. لقد أحبته أمينة، وأحبه عزيز، وأحبه جداه أم عزيز وأبو عزيز، أما جداه لأمه فقد طارا فرحاً بهذا "الفلاّح" الصغير كما كانا يلقّبانه.. لقد أحبته العائلة كلها، واستبشرت خيراً بقدوم هذا الشاب الذي أضيف إلى شبابها... وأما الأمين فقد أصبح فيما بعد ملازماً لعميه المحبين رفعت وفداء يصحبهما إلى المزارع والحقول، ويرافقهما في أسفارهما الكثيرة إلى المدينة، ويتردد معهما كثيراً على بيت جديه،وبيوت أخواله وخالاته فيها.

    وفي صبيحة يوم مشمس من أواخر أيام الشتاء كانت أمينة كالطبيعة الساحرة من حولها ترتدي أجمل حللها، وأبهى ثيابها، تروح وتغدو في بستانها كأجمل ما تكون عرائس المروج.. تارة تتفقد بئر الماء، وقد امتلأت تماماً بعد موسم كثير الأمطار، وطوراً تتفقد أشجار اللوز والمشمس والكرز والتين والزيتون والعنب.. مرة تتفقد مزرعة الخضار اليانعة.. وأخرى تراقب مزرعة الدواجن، وقد انتشر الدجاج كبيره وصغيره، وكذلك الأرانب البيضاء والسوداء والملونة لتنعم هي الأخرى بالدفء والشمس، ولتلتقط ما شاءت من الأعشاب الغضة الخضراء التي تكسو أرض المزرعة.. وتعود أمينة بعد ذلك إلى مكان جلوسها بين شجيرات الورد أمام بيتها السعيد...

    سمعت أمينة وهي في مكانها ذاك أصوات آليات ضخمة مزقت سكون الطبيعة الهادئة الوادعة من حولها؛ فقامت تستكشف الأمر؛ فوقع نظرها على عدد من الجرافات الكبيرة وهي تقتلع كل شيء يعترض طريقها من مزروعات وأشجار.. وتمعن في تسوية كل شيء بالأرض.. وهدم "الحبائل" التي تفنن أهل البلدة في إقامتها حتى غدت كالجنائن المعلقة التي تحدث عنها التاريخ ذات يوم.. ورأت أمينة أهل البلدة يهرعون إلى تلك الجرافات وهم يصرخون ويصيحون، وقد تطاير الشرر من عيونهم.. فخرجت أمينة مسرعة هي الأخرى صوب تلك الجرافات التي أخذت تهاجم ذلك الجزء من كتف الوادي لتقتل الحياة وكل شيء جميل في صبيحة ذلك اليوم.

    وصلت جموع الناس إلى مكان تلك الجرافات.. واشتبكت مع سوّاقيها الذين رفضوا في البداية التوقف عن عملهم الجنوني ذاك، ولكنهم اضطروا لذلك راغمين أمام إصرار أهل البلدة الذين تدفقوا نحوهم كالسيل من كل مكان... ورغم محاولات أهل البلدة بعد ذلك، ورغبتهم في التحدث إلى المعتدين إلا أن شيئاً من هذا لم يحدث.. فلقد رفض أولئك التحدث إلى الناس، ولاذوا بالفرار دون كلام باستثناء عبارات الوعيد والتهديد والسباب التي وجهوها إلى أهالي البلدة... لم تبتعد تلك الجرافات كثيراً عن ذلك الموقع.. فلقد اتخذت لها مكاناً خلف إحدى التلال القريبة لتعود بعد وقت قصير تحث حماية عدد كبير من السيارات العسكرية..

    كان أهالي البلدة في تلك الأثناء يقومون بتقدير قيمة الخسائر والأضرار التي أصابتهم جراء تلك الهجمة.. بينما توجه عدد منهم إلى المدينة لإطلاع ذوي المكانة، ومن يعنيهم الأمر على ما جرى في تلك المنطقة... واقتربت السيارات العسكرية من المكان، وترجل منها عدد من الجنود والضباط.. بينما وقف أهل البلدة فوق حطام الأشجار والحبائل والجدران المهدمة.. تقدم أحد الضباط قائلاً: أين المختار؟ فتقدم منه أبو عزيز قائلاً: ماذا تريد؟

    قال الضابط: أريد أن أعرف من الذين اعتدوا على هذه الجرافات وسواقيها.

    قال أبو عزيز: الا تريد أن ترى ما فعلته هذه الجرافات وسواقوها بأشجار الناس ومزروعاتهم؟

    الضابط: هؤلاء السواقون ينفّذون الأوامر.

    أبو عزيز: أية أوامر؟

    الضابط: كنا قد أبلغناكم خطياً منذ سنين بأننا سنضع اليد على هذا الجزء من أراضي البلدة لأغراض الأمن، وأعلناها بعد ذلك منطقة مغلقة، ولكنكم تجاهلتم ذلك، وعملتم على إعمارها غير مبالين بتعليماتنا.. لقد طلبنا منكم أن لا تفكروا بمنطقة "كتاف فاد" ولكنكم رفضتم ذلك.

    أبو عزيز: لقد توجهنا إلى "المحكمة العليا" لتفصل بيننا،  ولم تصدر حكمها حتى الآن.

    الضابط: بل أصدرته، وهو يقضي برفض التماسكم.

    ابو عزيز: لم يبلغنا أحد بهذا، وفي حال حدوثه فإننا سنستأنف الحكم.

    الضابط: لقد قررنا أن نفتح هنا شارعاً استيطانياً عرضه أربعون متراً ليخدم تلك المستوطنة.. أنظر إنها تلك التي تقام هناك على قمة ذلك الجبل.. وأعتقد أنك تعرف ذلك جيداً.. وقررنا أيضا - كما تعرف يا مختار، وكما هي العادة المتَّبعة - أن نضع اليد على مئة وخمسين متراً على جانبي الشارع، خمسة وسبعين متراً على كل جانب، وذلك من البداية حتى النهاية على امتداد هذا الشارع.. أفهمت الآن؟

    أبو عزيز: إن أهالي البلدة لا يوافقونكم على ذلك، وسوف تثيرون بهذا مشكلة لا نرى لها أية ضرورة.

    الضابط: نحن الذين نقدّر الضرورات، ونقررّها بعد دراستها وفحصها.

    أبو عزيز: ونحن أصحاب الأرض.. وقد قررنا عدم السماح لكم بشق أي طريق عبر أراضينا.

    الضابط: أحذّرك، وآمرك أن تنصرف بعد أن تنصح أهل بلدتك بالانصراف.. لا تخالف "القانون" يا مختار!

    أبو عزيز: أرفض التحذير والأمر، وأوجههما بدوري إلى جنودك وجرافاتك بضرورة الانسحاب، ومغادرة المكان في الحال.. يجب أن تتركونا وشأننا.

    الضابط: سنطلق بعض العيارات النارية التحذيرية في الهواء - كما ينص على ذلك القانون- ثم ليتصرّف كل طرف كما يريد.

    أبو عزيز: أحب أن أوضح لك أنكم بأعمالكم هذه تحفرون قبوركم بأيديكم، وبجرافاتكم هذه توسعونها.. وأن أيامكم في هذه البلاد قد باتت معدودة، وأنكم المسئولون عن نهايتكم، وعن كل ما يمكن أن تتعرضوا له في المستقبل.. فلا تلومُنّ سوى أنفسكم.. أما هذا التشدّق بالقوانين فأمر مضحك.. إنكم أكبر الخارجين على القانون في هذا العالم كله.

    الضابط (كمن فقد أعصابه): جرافاتنا هذه ستحفر قبوركم، وهي التي ستضع حدّاً لوجودكم على أرض"......" وراح يطلق النار في الهواء.. وراح جنوده يفعلون ما فعل.. بينما تحركت الجرافات لاستئناف عملها...

    قفز أبو عزيز أمام الجرافة صائحاً بسائقها: لن تتقدم الا على جثتي... وتقدمت الجرافة، وصعدت روح أبي عزيز إلى بارئها، بينما اختلط جسده، وامتزجت دماؤه الزكية بتربة الأرض الطيبة، وبجرافات الغزاة العاتية المجنونة... ولم يجد أهل البلدة ما يدفنونه من جسد أبي عزيز سوى بقايا حمراء من ملابسه الممزقة التي تلتصق بها قطع من جسده الطاهر... وعاد أهالي البلدة وهم يحملون إلى جانب "فتات" أبي عزيز بعض جرحاهم.. واستمرت الجرافات العملاقة في عملها بعد أن فرض أولئك الجنود نظام منع التجوال على البلدة، وعلى البلدات والقرى المجاورة.. وانتشر الخبر بسرعة في كافة مدن المنطقة وقراها ومخيماتها.. فأعلن الإضراب العام احتجاجاً على هذه الجريمة النكراء التي أضيفت إلى سلسلة الجرائم التي مارسها هؤلاء الغزاة ضد شعب آمن أعزل منذ سنوات طويلة...

    أما ضريح أبي عزيز فقد أصرت أمينة أن يقام في أقصى الطرف الغربي من البستان بحيث ينتصب عند المتر الأول من الأمتار الخمسة والسبعين التي تقع على جانب الشارع الاستيطاني من جهة الشرق.. أما الأمين فقد حزن حزناً شديداً لفراق جده، وأما عزيز فقد قطع زيارته لأحد الأقطار العربية ليعود بعد أسبوع من الخطب الجلل حيث تدفقت عليه جموع المعزّين من جديد.. وأما أم عزيز فقد لبست ثياب الحداد، وأمسكت عن الكلام.. وأما رفعت وفداء فقد تحررا من أحزانهما بسرعة ليواصلا خدمة الأرض، والعناية بها.. بينما ازداد ترددهما على المدينة.. وأما أمينة فقد اعتكفت في بيتها بضعة أسابيع للعناية بزوجها، والوقوف إلى جانبه في أزمته.. وأما أهل البلدة فقد رفضوا أن يكون لهم مختار بعد أبي عزيز.. وأما المستوطنة المقابلة على قمة الجبل فقد تم بناؤها في بضعة أسابيع.. وكذلك تم فتح الشارع الاستيطاني الذي أصبح يوصل بين مجموعة من المستوطنات التي تشكّل طوقاً محكماً حول المدينة المجاورة... وبات كثير من الناس يعتقدون أن كل شيء قد انتهى.. وتسرب اليأس أو كاد إلى نفوس كثير من الناس.. وتمادى الغزاة في طغيانهم، وتشديد قبضتهم على كل شيء، وتفننوا في التنكيل بالناس، وبالغوا في تجويعهم، وأسرفوا في تحقيرهم وازدرائهم وإذلالهم والاستخفاف بهم.. وراحوا ينكرون وجودهم كشعب من شعوب هذا العالم، وأصبح مواليد المستوطنات التي أقيمت على الأراضي المحتلة بعد عام سبعة وستين يعيثون فساداً في الأرض ليزيدوا الطين بلة، ويضاعفوا من هموم المواطنين الذين أصبحوا يعيشون حياة ترفضها البهائم، وتعافها الكلاب... وتسرب اليأس بل تمكن من كثير من النفوس، وأصبح التفاؤل عملة نادرة، وأحياناً مفقودة بين أوساط شعبنا داخل أرض الوطن، وفي كافة مناطق الشتات.

    بذلت أمينة كل جهد مستطاع كي تعيد البسمة إلى شفتي عزيز، فعاد يمارس حياته مثل الغالبية العظمى من مواطني البلاد، حياة ثقيلة تعسة مملة خالية من كل مضمون، لا طعم لها، ولا معنى... رأيته في المشتل الذي رأيته فيه أول مرة، ولما فرغ من عمله عرض علي أن أصحبه إلى البلدة، وكان السأم قد بلغ مني كل مبلغ، وأذكر يومها أنني كنت قد أمضيت أكثر من ثلاث ساعات في ذلك المشتل دون أن أتفوه بكلمة واحدة.. لقد فقدت الإحساس بوجودي.. وبدون أي تفكير وافقت على الذهاب معه إلى البلدة...

    كان يقود السيارة في اضطراب ملحوظ، ولما أوضحت له ذلك قال: لا أخفي عليك أنني متعب.

    قلت: ما رأيك في أن أتولى القيادة بدلاً منك؟

    قال: لا مانع.. ومضت الدقائق الأولى دون كلام حتى خرجنا من حدود المدينة.. فالتفت إليّ وقال: ما رأيك في حادثة غزة؟

    قلت: ليست الأولى من نوعها، ولن تكون الأخيرة.

قال: هل ستستمر حياتنا على هذا النحو؟

    قلت: أغلب الظن أن لكل بداية نهاية.. وأغلب الظن أيضاً أن لكل ليل آخرا مهما طال.

    قال: وليلنا هذا، أتعتقد أنه سينتهي؟

    قلت: لكل شيء نهاية.. المهم أن لا نفقد الثقة بأنفسنا، وأن لا ندعهم يخترقون إرادتنا وضمائرنا... وفي اليوم التالي اشتعل قطاع غزة، وكانت بعد ذلك أحداث نابلس، وكنت طوال الوقت في ضيافة عزيز نقضي معظم وقتنا عند ضريح والده الذي أصبح منطقة "حدودية" نطل منها على كل الأرض المحتلة من كتف الوادي، ونرى الشارع والمستوطنة.

    قال عزيز في هدوء: أتعتقد أنها ستنتقل إلى كافة مناطق الأراضي المحتلة، وأنها ستستمر؟

    قلت: ومن يدري؟ ربما.. كل شيء ممكن يا عزيز... وقبل أن أودع شاكراً حسن الضيافة، وكرم عزيز وامينة أوصيته خيراً بنفسه، وبأبنائة "الأمين" وإخوانه... وانتشرت "الانتفاضة" كما اشتهى عزيز، واستمرت أيضاً، واستد ساعدها.. وكانت بلدته من أوائل البلدات التي أعلنها أهلها منطقة محررة ترفرف الأعلام الفلسطينية فوق مئذنة مسجدها، وفوق بيوتها وأشجارها الشاهقة، وفوق ضريح أبي عزيز... لقد تغير كل شيء في بضعة أشهر، بل في بضعة أسابيع... والمستوطنة تلك أصبحت خالية تماماً من المستوطنين، وأما الشارع الذي يطل عليه ضريح أبي عزيز فقد أصبح السير عليه رابع المستحيلات...

    كان عمل أمين وأترابه طوال النهار زرع ذلك الشارع بالمسامير المدببة، وإقامة الحواجز الحجرية، وكان دور من هم أكبر سنّاً تصيّد تلك السيارات التي يأتي بها حظها العاثر لعبور ذلك الشارع.. لقد اشتعل شارع كتف الوادي كغيره من شوارع فلسطين وأزقتها. وساحات مدنها، ومخيماتها، وقراها... ولما قرر الغزاة قمع انتفاضة هذا الشعب بأي ثمن، وبكافة الأساليب كانت تلك البلدة من أوائل البلدات التي قرر الغزاة اقتحامها للرد على أهلها...

    وعند الساعة الثانية من صباح يوم من أيام صيف الانتفاضة الأول فوجئ أهالي البلدة بأعداد كبيرة من الآليات، وناقلات الجنود تحاصر البلدة.. بينما كان عدد من المروحيات ينتشر في سمائها.. في الوقت الذي أحالت فيه القنابل الضوئية بهيم الليل نهاراً مبصراً... وتحركت قوات الاحتلال المحمولة لتقتحم البلدة من كل مداخلها.. فهب أهل البلدة جميعاً يدافعون عن بلدتهم، واشتبكوا مع الغزاة، وخاضوا ضدهم معارك شرسة بالقضبان الحديدة والبلطات والفؤوس والحجارة والسلاسل الحديدية، وبالحجارة الكبيرة يلقونها من فوق أسطح المنازل، وبالسكاكين والأيدي والصدور العارية... واستمرت المعركة طاحنة ضارية حتى الساعة الخامسة من ذلك الصباح أطلق جنود الاحتلال خلالها مئات القنابل الضوئية، والغازات السامة الخانقة، وأطلقوا آلاف الأعيرة النارية الحية والمطاطية والبلاستيكية والمعدنية.. وداهموا أكثر من مئة بيت من بيوت البلدة حطموا كل أثاثها وأبوابها وزجاج نوافذها.. وأخرجوا كل أهلها حيث اعتقلوهم في ساحة المدرسة وهم يسومونهم سوء العذاب، وأسوأ أنواع التنكيل.. وكانت غالبيتهم من الشيوخ والنساء والأطفال دون سن العاشرة، وعاثوا فساداً بكل تلك البيوت، وسرقوا كل ما فيها من نقد وذهب.. وأتلفوا كل ما فيها من مواد استهلاكية وتموينية...

    أما بيت عزيز فقد كان من أوائل البيوت التي اقتُحمت، فتصدى لهم عزيز وعدد من ضيوفه من شباب المدينة المجاورة بالحجارة والزجاجات الفارغة وغير الفارغة.. فأصابوا منهم من أصابوا.. وتمكنوا من فتح طريقهم بشجاعة وجرأة نادرتين.. وفي لحظات اختفت آثارهم، فجن جنون قائد الحملة، ولم يجد أمامه سوى هذه السيدة الواثقة وأطفالها فانهال عليهم ضرباً بكل ما في قلبه الأسود من حقد ولؤم وكراهية حتى وقعت أمينة جثة شبه هامدة على الأرض،  وكان أطفالها يصرخون: ماما.. ماما.. ماما.. وتظاهر أحدهم بالإنسانية (وقد قرر أن يحرق قلب هذه الأم) فاستدعى بعض أطباء الحملة لإسعاف تلك السيدة.. وكان له ما أراد.. ولكنه سرعان ما نفذ ما كان يدور برأسه، فصوّب فوهة بندقيته نحو أصغر أطفالها بدم بارد لتخترق الرصاصة عين الطفل الصغير.. وبعد لحظات قرر أن تُعتقل أمينة بتهمة التعاون مع زوجها وأصدقائه الذين كانوا في ضيافته ساعة الاقتحام.. وبتهمة مساعدتهم على الهرب بمشاركتها في الاشتباك الذي مكنهم من فتح طريقهم، والخروج من البيت بسلام...

    كانت حصيلة ذلك الاقتحام إلقاء القبض على ثلاثين "مطلوباً"، وإصابة خمسة عشر مواطناً بجراح مختلفة... بعد انسحاب الغزاة من البلدة رأى أهلها أطفال عزيز وأمينة "الأمين" وإخوته الصغار وهم يبكون أمام بيتهم... فتجمّع حولهم عدد من الجارات.. قالت إحداهن: واحسرتاه! لقد سمعنا أن أباهم قد أختفى، ومعه عدد من المطلوبين، ولقد سمعت أن الدماء كانت تنزف بغزارة من أحدهم وهم يغادرون المكان، وإن كانت قد اختفت آثارها بعد ذلك... وقالت امرأة ثانية: وأمهم، واحرّ قلباه أخذوها معهم عند انسحابهم، ولقد شاهدهم زوجي (وهم يحملون طفلها الصغير الذي ضربوه بالرصاص أمام عينها) في سيارة من سيارات الإسعاف التي حملت جرحاهم... وقالت ثالثة: كلهم رحمة وإنسانية يريدون أن يعالجوا الطفل، وليس بعيداً أن يتهموا شباب البلدة بهذه الفعلة الشنيعة... وقالت رابعة: ليتنا نحملهم إلى بيت جدتهم أم عزيز... وقالت خامسة: لندع أم عزيز وشأنها.. إنها مغمي عليها، فلقد أخذوا ابنيها رفعت وفداء بعد ملاحم بطولية أصيب خلالها أكثر من ثلاثة منهم.. فقالت إحداهن ليس أمامنا إلا أن نوصلهم إلى بيت جدهم في المدينة، وسنرسلهم مع جارنا "أبي صقر" فهو يستعد الآن للتحرك، وأوصلهم أبو صقر إلى بيت جدهم في المدينة... وفي اليوم التالي حضرت إلى البلدة قوة من جيش الاحتلال لنسف عدد من المنازل كان من بينها بيت أمينة وعزيز.. وكذلك بيت أم عزيز.. وفي الوقت نفسه قامت الجرافات بإتلاف البستان، واقتلاع أشجاره، وهدم مزرعة الدواجن، وتخريب بئر الماء، وإتلاف شبكة الري بدعوى أن الشباب يقومون برجم السيارات، وإلقاء القنابل الحارقة عليها انطلاقاً من هذا البستان... وبعد ثمانية عشر يوماً قرأت في إحدى الصحف اليومية أنهم قد أفرجوا عن أمينة بكفالة مالية كبيرة.. ولم يكن أمامي بد من التوجه إلى بيت أهلها في المدينة لعلمي بما حل ببيتها، وبيت أهل زوجها في البلدة.. . وفوجئت عندما قال أبوها: لقد رفضت مجرد زيارتنا.. وتوجهت مع المحامي منذ قليل إلى بلدتها، وأخذت أولادها معها..

    كان الصليب الأحمر الدولي ينصب خمس خيام: واحدة لأمينة وأبنائها في غرب البلدة، والثانية لأم عزيز في شرقها.. وبين الخيمتين ثلاث خيام لثلاث عائلات نُسفت بيوتها هي الأخرى... قلت لأمينة: ماذا أنت فاعلة يا أمينة، وكيف ستعيشين؟ قالت: أعيش هنا في حماية عزيز... أنا واثقة أنني سأراه قريباً.. سأخدمه، وأفديه حتى آخر نقطة دم في عروقي.. وسأكون على بيته وأولاده أمينة.

    خرجتُ من البلدة، وصوت مسجّل أبي صقر يلاحقني بالنشيد الوطني: فدائي.. فدائي.. فدائي يا أرضي يا أرض الخلود.. سأحيا فدائي.. وأمضي فدائي.. إلى أن أعود..

    ونظرت من حولي؛ فرأيت الأعلام الفلسطينية ترتفع على بيوت البلدة، وأشجارها، وعلى الروابي من جديد.

صيف 1988

أضف تعليق
تغيير الصورة
تعليقات الزوار
تصميم وتطوير: ماسترويب