خالد النمروطي
عدد القراءات: 3708

هو العرس الفلسطيني الذي يعرش على ضفاف القلب و يمتدّ بين مسافات الانتظار و يسافر في ليالي الحنّاء تخضب أيدٍ و أعناق زيّنتها السلاسل و القيود لتهدي الرجال بهاءً إذا تباهت النساء بالأساور و العقود ، هي حكاية الشهداء التوّاقين دوماً لعرس الدم مع إشراقة كلّ صباح ، و حكاية فارسنا "خالد" من أروع تلك الحكايا ، و أبهى الروايات حول شعبٍ غدا يطير إلى الخلود ..

فقد وُلِد الشهيد خالد في مخيّم عين بيت الماء قرب نابلس لأسرةٍ مكوّنة من سبعة ذكور و ثلاث إناث ، رضع الكرامة في برد المخيّم و بقيت عيناه ترتقب العودة إلى أرض الأجداد "سيدنا علي" التي رُحّلت أسرته عنها عنوةً مع زحف الموت في غيلة النكبة عام (1948) .

نشأ خالد الذي شاءت الأقدار أنْ يرتبط اسمه باسم أروع فوارس الإسلام على مرّ الأجيال كارهاً للمحتل متوعّداً بمقاومته منذِراً بحربٍ لا هوادة فيها ليطهّر الأرض من آثار القدم الهمجية فاعتُقِل لنشاطه ضدّ المحتل في العام (1984) و أمضى في السجون الصهيونية بضعة شهورٍ كانت كافية لتشعل البركان .

ما إنْ خرج خالد من سجنه حتى أخذ يعمل مجدّداً لضرب الاحتلال و ملاحقة فلوله و قطعان مستوطنيه حتى اعتقل في العام (1985) قبل الانتفاضة المباركة الأولى و حُكِم عليه بالسجن تسع سنوات بتهمة مشاركته بعملية إحراق دورية عسكرية و مقتل ثلاثة جنودٍ بها في جبل النار .

أنهى خالد سنوات اعتقاله التسع و عاد من جديدٍ إلى الميدان و التحق بجامعة النجاح الوطنية لدراسة علم النفس قبل أنْ يتخرّج و يعمل مدرّساً في سلك التربية و التعليم في مدرسة الشهيد سعد صايل في نابلس .

و مع اندلاع انتفاضة الأقصى المبارك كان لفارسنا خالد شرف عظيم بالالتحاق بركبها فأخذ ينظّم الخلايا و يجنّد المقاتلين في صفوف كتائب شهداء الأقصى ليدفع ضريبة الجهاد و المقاومة بعد فقدانه إمكانية ممارسة حياته الطبيعية حيث أصبح أحد المطلوبين و المطاردين لقوات الاحتلال التي جعلت منزله في مخيّم العين هدفاً للعديد من عملياتها مهدّدة بإلحاق الأذى بأهله و زوجته و طفلتيه (شهد ابنة السنوات الأربع و شذا ذات العامين) حيث حُرِمتا من رؤية والدهما إلا لأوقاتٍ معدودة كان يختطفها خلسةً من وراء جيشٍ من العيون الخائنة المتربصة بيع دم الشهيد بثمنٍ بخسٍ شواكل معدودة ..

 

مطارد فذّ :

تقول أسرة الشهيد إنّ خالداً قد عُرِف ببراعته في إعداد العبوات الناسفة و هندسة المتفجّرات و قدرته القتالية العالية و دقّته في استخدام السلاح للقنص و هو ما جعله من أكثر كوادر شهداء الأقصى غيظاً للمحتلّ الذي راح يداهم كلّ مكان أو بناية أو شارع كان فيه الشهيد بحثاً عنه دون أن تتمكّن تلك القوات من اعتقاله .. و يضيف أحد أقاربه أنّ القوات الصهيونية تتبّعته ذات مرة بعد رصد زيارته لبيته و اقتحمت قوة كبيرة من الوحدات الخاصة المنزل دون أن تتمكّن من اعتقاله رغم وجوده فيه بعد أنْ اختفى بين أسطح المنازل المجاورة تاركاً للجنود يحطّموا أثاث المنزل عاضين عليه الأنامل من الغيظ ، ليعدّ بدوره لمعركة انتقامٍ جديدة يلقّن فيها المحتل درساً تلوَ آخر حول صمود رجالٍ بأسهم على عدوهم شديد ..

و عندما يئس المحتلّ من إمكانية الإيقاع بخالد أو اعتقاله أخذ يمارس أسلوبه المعتاد عبر الغدر و الغيلة فتعرّض خالد لمحاولة اغتيالٍ في شارع عمّان شرق نابلس حين قامت نقطة عسكرية مقامة على جبل الطور بإطلاق زخّاتٍ من الرصاص و قذائف الأنيرجا باتجاهه و لكن قدرة الله كانت فوق أيديهم فنجا .

 

عرس الشهادة :

لم يكنْ خالد ليظنّ أنّ زيارته لأحد رفاقه في السلاح من الجرحى الذين يتلقّون العلاج في مستشفى رفيديا ستكون آخر لقاءٍ له مع من أحبّ على الأرض ، أو لربما أنّ شوقه إلى من سبقه في السماء كان يدفعه للقيام بتلك الزيارة الجريئة رغم خضوع نابلس لنظام منع التجوّل في 22/8/2003 ، و ربّما لأنّ الوفاء شيمة لا يحملها إلا صنفٌ من الرجال كانت قدما خالد تستبقانه لرؤية أخيه الجريح ، فيما كانت أخبار تلك الزيارة تتطاير إلى المحتلّ عبر كلابه النابحة من العملاء المأجورين ، و ما هي إلا لحظاتٌ حتى كان الحيّ الذي يقبع فيه المستشفى يضجّ بمئات الجنود و عشرات الآليات العسكرية التي أدرك خالد الهدف من حضورها ، فما جاءت إلا لصيدٍ ثمينٍ يدرك في قرارة نفسه أنّ ما فعله بهم جديرٌ بهذه الزيارة .

و ما هي لحظات حتى كان خالد يغادر غرفة صديقه الجريح عبر أحد النوافذ و يتسلّق سطح المستشفى ليشتبك مع الوحدات المنتشرة على أسطح المنازل المجاورة تساندها طائرتا أباتشي ليلتقي كلّ العتاد و كلّ الحديد على قلب رجلٍ طالما هزئ بالحديد قيداً و طوّعه بيده سلاحاً ، و دارت المعركة حامية الوطيس تناثرت حولها رياح الجنة لتحمِل روح خالدٍ جديد إلى سجل الخالدين .

 

وداعٌ و عهد :

و سرعان ما انتشر خبر استشهاد خالد في نابلس و تناقلته وسائل الإعلام التي طالما أعلنت غياب نجمٍ سطع متألقاً في كبرياء السماء ، لتتلقّى زوجة الشهيد خالد (سناء الترابي) النبأ بالصلاة و الدعاء ، فهو الذي ما فارق الحديث عن الشهادة لسانه يوماً ، و هو الذي كان يعلّمها كيف تربّي بناته على الصبر و الإيمان بالقدر و تحدّي المحتل .

أمّا والد الشهيد فقد كبّر الله و سبّحه و استرجع قائلاً : "لم يمتْ خالد ، ولدي حيّ يُرزق ، ولدي شهيد في سبيل الله" .

و خرجت جماهير جبل النار في اليوم التالي كعادتها بالوفاء للشهداء ، خرجت لتعلِن على الملأ عهداً لا يوقِفه التهديد و لا تمنعه مكبّرات الصوت النادبة بإعلان منع التجوّل ، خرجت لتحمل الجثمان المسجّى بأوسمة الشرف و البطولة ، عددٌ من رصاصات اخترقت جسد خالد و قذيفة أنيرجا لو أبصرت نور عينيه لاعتذرت ، و نقل جثمان الشهيد على أكتف الغاضبين ، ليُسدلَ الستار على حكاية فارسٍ أعلن رحيله بدء زحف الفوارس .

 

تم طباعة هذا المقال من موقع مدينة نابلس الالكترونية: واجهة نابلس الحضارية على شبكة الانترنت (nablus-city.net)

© جميع الحقوق محفوظة

(طباعة)