الشهيد مجدي البحش : جنديّ "القسام" المجهول
الشهيد مجدي البحش : جنديّ
الشهيد مجدي البحش : جنديّ "القسام" المجهول
عدد القراءات: 1609

 

"استشهد الجنديّ .. استشهد الجندي المجهول .." كلمات تردّد صداها في أزقّة البلدة القديمة مع إشراقة صباح يومٍ جديد من أيام كانون الفلسطيني المخضب عبر السنين بالأحمر القاني .. لتعلن عن ترجّل ذلك الجندي الذي لم يعرف له أخوة السلاح اسماً غير هويته المجهولة .. و إخلاصه لله وحده .. و عشقه لتراب أرضه .. فكان الجندي المجهول الذي أخفى خلف صمته أبلغ عبارات التضحية و الفداء .

 

منحة من الله :

كانت منحة الله للوالد محمد فخري البحش بعد محنة سبع سنوات من الاعتقال في سجون الاحتلال ، أنْ رُزِق برابع أبنائه .. "مجدي" في السادس و العشرين من شباط عام 1978 .. مجدي ، ذلك الطفل الوديع الذي فتح عينيه على الدنيا ليجد نفسه فرداً في أسرةٍ عريقة الجهاد و المقاومة ، و ليستقي من والده حبّ الوطن و بغض كلّ ما يمتّ للغريب عنها بأي صلة .

 

نشأ مجدي في أسرةٍ كبيرة تكوّنت إلى جانب الأبوين من سبعة أبناء ، و ترعرع مع انطلاقة الانتفاضة الأولى المباركة على وقع المواجهات اليومية مع جنود الاحتلال و استساغت أذنيه صوت الرصاص حتى أصبحت "مهرجانات" التصعيد ديدنه اليومي و هوايته المفضلة التي لا يمكن له أنْ يفرّط بها و لو ليومٍ واحد ، و لا يرضى بأن يعود إلى بيته بعد انتهاء دوام المدرسة قبل أنْ يلقي ما تيسّر له من حجارة باتجاه دوريات الاحتلال .

 

أنهى مجدي رحلته الدراسية مبكّراً في الصف الخامس الابتدائي لينتقل إلى ميدان العمل و كسب لقمة العيش ليساعد عائلته في تحمّل تكاليف الحياة القاسية ، فامتهن البناء و اشتدّ عوده يوماً بعد يومٍ ليصبح فيما بعد محترفاً لهذه المهنة التي أكسبته بنية قوية و شخصية رجولية و هو في سنٍّ حديثة ، و قد بنى لنفسه شقة استعداداً للزواج لولا أنْ الله قدّر غير ذلك ، فكان نصيبه من حور الجنان خيراً من نساء هذه الدنيا .

 

في سبيل الله :

في الوقت الذي كان فيه مجدي يعدّ نفسه للزواج ، كان همّ الوطن هو شغله الشاغل ، و مع انطلاقة انتفاضة الأقصى وجد الشهيد ضالته فيها .. فهو الشاب المتحمس ذو الدم الفوّار و الذي تربّى على الجهاد و رفض الذلّ و الهوان .. كان – رحمه الله - شديد التأثّر مع سقوط أيّ شهيدٍ أو ارتكاب قوات الاحتلال الجرائم بحقّ أبناء شعبه ، و تتهلّل أساريره لوقوع عملية بطولية هنا أو هناك مهما كان منفّذها .. فالكلّ في نظره يكمل بعضه بعضاً .

 

لقد سارعت وتيرة الجرائم الصهيونية المتصاعدة من حسم الشهيد مجدي لقراره و تصميمه على الانخراط في العمل الجهادي المسلح و عدم الاكتفاء بالوقوف موقف المتفرج و لطم الخدود و شق الجيوب ... فاشترى السلاح من ماله الخاص و اتصل بعددٍ من أصدقائه الموثوقين ليشكّل معهم خلية مسلحة أخرجت إلى الوجود عدة عمليات مسلحة نجح بعضها ، فيما ساهم البعض الآخر في إثراء تجربته العسكرية لاحقاً .

 

بدأ مجدي الممارسة الفعلية للعمل الجهادي المسلح خلال الاجتياح الأول و الكبير لمدينة نابلس في نيسان عام 2002 برفقة القائد القسّامي الشهيد إبراهيم أبو هواش حيث كتب الله له شرف المشاركة في معركة الدفاع عن البلدة القديمة ، تلك المعركة التي مثّلت إحدى الصخور التي تحطّمت عليها أسطورة الجيش الذي لا يقهر !! لم تكن معركة البلدة القديمة بالنسبة لمجدي سوى البداية قبل أنْ تتوالى بعدها العمليات تباعاً .

 

و رغم العمليات الكثيرة التي شارك فيها مجدي بعد الاجتياح الأول لمدينة نابلس ، إلا أنّ سلطات الاحتلال لم تكن قد أدرجت اسمه على قوائم المطلوبين نظراً لدرجة السرية العالية التي اتبعها مجدي في عمله ، و في ذات ليله من شهر كانون الأول عام 2003 خرج مجدي مع مجموعةٍ من إخوانه المجاهدين إلى منطقة الطور لتنفيذ عملية مسلحة في موقعٍ عسكريّ صهيونيّ هناك ، و شاء الله أنْ يتأخر المجاهدون نصف ساعة عن الموعد المحدّد مسبقا ليجدوا جنود الموقع في حالة استنفار شديد و أشعلوا الأضواء الكاشفة في المنطقة المحيطة للموقع مما يدلّل على تسرّب معلوماتٍ لقوات الاحتلال عن خطة المجاهدين مما دفعهم إلى إلغاء العملية ، و في تلك الليلة داهمت قوات الاحتلال منازل المجاهدين و اعتقلت أحدهم فيما كان مجدي قد بات في مكانٍ آخر فلم تتمكّن قوات الاحتلال من اعتقاله ، و منذ تلك الليلة بدأت رحلة الشهيد مع المطاردة .

 

و تضاعفت ضغوط الاحتلال على عائلة مجدي ، فبعد اقتحام منزل العائلة بحيّ رأس العين في المرة الأولى و تحطيم محتوياته ، اتبعت المخابرات الصهيونية أسلوب الضغط النفسيّ مع ذويه ، فتوالت الاتصالات الهاتفية عليهم من قِبَل رجال المخابرات الذين كانوا يطلقون التهديدات للعائلة ما لم يسلّم مجدي نفسه ، و لكن رغم كل تلك التهديدات لم يعرف الخوف إلى قلب مجدي طريقاً ، بل إنها كانت ترفع من درجة التحدّي عنده ، و كان يطمئن أهله خلال المرات القليلة التي زارهم فيها بأنّه لن يسلّم نفسه ، و سيقاوم جنود الاحتلال حتى الشهادة إنْ هم حاولوا اعتقاله حياً .

 

و لعلّ من أبرز العمليات التي شارك فيها مجدي الاشتباكات المسلحة التي دارت رحاها وسط مدينة نابلس في أيلول عام 2002 و التي قُتِل فيها جنديّان صهيونيان و كان نصيب مجدي أحدهما فيما كان الجندي الآخر من نصيب الشهيد أحمد جود الله (اغتيل في 27/10/2002) و لم يكنْ أحد يعرف من هو الذي نال شرف قتل الجنديّ حيث إنّ مجدي كان شديد الإخلاص لله ، و لم يكن يعمل في يومٍ من الأيام لشهرة أو لكسب إعجاب الناس ، فأخفى هذه المعلومة عن كافة معارفه و أصدقائه حتى أواخر أيامه ، حينما أسرّ بها إلى أحد رفاقه بشرط ألا يبوح بها لأحدٍ قبل استشهاده .

 

لقد بلغ من شدّة إقبال مجدي على الشهادة ما رواه رفقاء دربه المعتقلين خلال اعترافاتهم ، أنه جهّز نفسه لعملية استشهادية ، لكنّ أجله لم يكن قد حان بعد ، فبعد أن وصل إلى الحاجز العسكري قرب قرية بيت إيبا غرب نابلس كان ينتظره هناك جنود الاحتلال و عندما دقّقوا في بطاقته الشخصية حاولوا اعتقاله ، لكنّه كان قد اخترق جموع المواطنين و أفلت من قبضة قوات الاحتلال التي فرضت طوقاً مشدّداً على المنطقة .

 

اتخذ مجدي منذ بدء مطاردته من البلدة القديمة ملجأ له ، فهو الذي شارك في الدفاع عنها ، و كان حقاً عليها أن تحتضنه يوم أنْ ضاقت به الأرض بما رحبت ، و هناك ، كان مجدي قليل الظهور نهاراً ، و حتى عندما كان يظهر لم يكن يظهر سلاحه أو يتباهى به في الطرقات كما يفعل البعض ، و إذا ما جنّ الليل رأيته يحرس في سبيل الله و يتصدّى مع إخوانه لجنود الاحتلال الذي يداهمون البلدة بصورة شبه يومية ، و كان مع كلّ ذلك شديد الحرص و الحذر ، و لا يكشف هويته إلا لقلّةٍ قليلة ممّن يعرفهم و يثق فيهم ، حتى أطلق عليه إخوانه لقب الجندي المجهول ، و اشتهر بهذا اللقب حتى يوم استشهاده حينما كشفت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) عن هوية جنديّها المشهود له بالجرأة و الإقدام .. مجدي البحش.

 

و بعد انتصاف ليل الخميس الثامن عشر من كانون الأول عام 2003 تسلّلت قوات الاحتلال إلى البلدة القديمة بنابلس بعد أنْ أحكمت حصارها ، و استهلّ جنود الاحتلال جرائمهم تلك الليلة بقتل الشاب علاء الدواية الذي كان متوجّهاً لعمله في أحد مخابز المدينة ، ثم تابع الجنود مسيرهم نحو الهدف المقصود .. بناية قديمة تقع فيما يعرف ببستان الغزاوي قرب حمّام الخليلي حيث يبيت عددٌ من المطاردين من مختلف فصائل المقاومة الذين تآلفت قلوبهم ، و اتّحدت بنادقهم صوب صدور الأعداء الغاصبين .

 

و اشتبك المجاهدون بشراسة مع جنود الاحتلال ، و وصف شهود العيان الحالة التي كان يتصرّف بها جنود الاحتلال بالهستيرية بعد أنْ أوقع المجاهدون في صفوفهم إصاباتٍ محقّقة لم يجرؤ العدو على الكشف عنها ، و كان ردّة فعل الجنود من الفظاعة و البشاعة ما ظهر على أجساد الشهداء لاحقاً . و يروي من شهد تلك الاشتباكات أنّ أحد المجاهدين أصيب بجروحٍ فقام مجدي بنقله إلى جهة آمنة ، ثم عاد ليشارك في الاشتباكات ، و كان الجنود قد أحاطوا بالمكان من كلّ جانبٍ و أمطروا المجاهدين بالرصاص فأصيب مجدي بعيارٍ ناريّ من العيار الثقيل مما أدّى إلى كسر ساقه و عدم قدرته على الوقوف ، و مع ذلك ظلّ يقاوم بشراسة حتى نفدت ذخيرته هو و من تبقّى من إخوانه ، عندها بدأ فصلٌ أكثر قذارة في أخلاق الجندية الصهيونية عندما نفّذ الجنود عملية إعدامٍ ميدانية بحقّ مجدي و رفيقيه جبريل عواد و فادي حنني، و أطلقوا الرصاص من مسافةٍ قصيرة على رؤوسهم و هم ملقَوْن على الأرض و مثخنون بجراحهم ليرتقوا إلى العلا شهداء شاهدين على همجية بني صهيون .. لكنّ المشهد لم ينتهِ بعد .. فيواصل الجنود ما بدأوه ، و هذه المرّة باستخدام الخناجر و السكاكين بعشرات الطعنات في جميع أنحاء أجسادهم و خاصة في المناطق الحساسة للإجهاز عليهم حتى بعد أنْ فاضت أرواحهم الطاهرة إلى بارئها .

 

تم طباعة هذا المقال من موقع مدينة نابلس الالكترونية: واجهة نابلس الحضارية على شبكة الانترنت (nablus-city.net)

© جميع الحقوق محفوظة

(طباعة)