عزومة نابلسية
عدد القراءات: 2260

اليوم الطقس بارد، بس امبارح كان شوب، بهذه المجاملات الممللة يبدأ الحوار كل مرة التقي بها أناساً تربطني بهم علاقات رسمية في كل دعوة او عزومة من العزائم النابلسية، تبدأ العزيمة بتناول الطعام، وتبذل الاسرة المستضيفة جهدها قبل عدة أيام في التحضير للعزومة، حيث يتم شراء الصنوبر واللوز والدجاج واللحم وغيرها من المقومات الاساسية لأي عزومة، وتنهمك نساء الاسرة في التحضير للوليمة بينما تنهمك كبار نساء العائلة في دراسة قائمة المدعوين ومن سيقوم بتوجيه الدعوة، رب الاسرة طبعا هو الطرف المخول بتوجيه الدعوات في مجتمع ابوي كمجتمعنا، وعادة ما يقولون كبير العيله هو اللي بعزم، و(اللي بعزمك بلزمك)، لذلك لا بد من الاستجابة للدعوة والتوجه للمشاركة في طقوس العزومة التي ما إن يبدأ فيها تناول الطعام حتى يقوم صاحب المنزل او من ينوب عنه بحركات سريعه لملىء صحون الاخرين، وكثيراً ما تساءلت عن سبب السرعة في تلك اللحظات، لماذا يقوم هذا الرجل بتفتيت الدجاج واللحوم بسرعة كبيرة! هل هو طقس من طقوس العزيمة وبالتالي لا يجوز التأخر عن ملىء الصحون؟ يقوم أحدهم وبعد ان تمكنت ذات مرة من الانتهاء من تناول ما في صحني من طعام (بشق الانفس) يقوم بملئه من جديد، يبدأ عرقي بالتصبب، بينما يحمر وجهي خجلأً امام نداءات الآخرين والمطالبة بالاستمرار (الاكل على قد المحبة) و(الشبعان باكل اربعين لقمة) و(عشاني كول هاللقمة) فيستمر العرق بالتصبب بينما يسيطر صمت رهيب على الجالسين لا يعكره سوى صوت المعالق وارتطامها بالصحون او صوت أحدهم ممن يصدرون أصواتاً مزعجة من افواهم أثناء الطعام، إذ يقوم بعض المدعوين بالانقضاض على الطعام (براحتهم وبدون خجل) تعبيراً عن شعورهم بالالفة مع المكان والشخص المستضيف.

 

لماذا هذا الصمت الرهيب أثناء تناول الطعام؟ ولماذا لا نتناول الطعام بأريحية وهدوء؟ لماذا لا نتجاذب اطراف الحديث اثناء تناولنا للطعام؟ لقد إعتدت على تناول الطعام برفقة طرف آخر، لم استلذ الطعام وحيداً قط، كنت ممن يدعون الاصدقاء لتناول الطعام برفقتي حين كنت أسكن وحيداً، لا قيمة للطعام إن لم يوجد من يتناوله معك متبادلاً وإياه أطراف الحديث الهادىء.

 

ما أن يخطب الشاب حتى تنهال عليه العزائم التي لا بد من تلبيتها، وتبدأ رحلة العذاب التي يسمونها تجاوزاً ب"التعارف" بين اهل العريس وأهل العروس، عزائم يتكرر فيها السيناريو الممل، وجبة على الغذاء يتبعها تناول لبعض الحلويات النابلسية الشهية، ثم يأتي دور الفواكه، يا لصينية الفواكه ما اضخمها! ولكن نادراً ما استطاع أحدهم أكل شيء منها، إذ عادة ما توضع لمجرد متطلبات الاستعراض وذلك لأن البطون مليئة ولا مجال فيها لأي شيء يذكر، وتنتهي حفلة العزيمة ببعض القهوة، أما الحوار الذي يتم تبادله في عزائم من هذا القبيل فهي عادة من ذلك النوع من الحوار الذي يتحدث به القوم حين لا يوجد ما يتحدثون به، السياسة وحالة الطقس، مواضيعُ من لا مواضيع مشتركة بينهم.

 

وبعد الزفاف، تبدأ مسيرة أخرى من تبادل الزيارات بين أهل العريس وأهل العروس، وتستمر هذه الجولة اسابيع وربماً أشهراً، يتمنى فيها العروسان أخذ قسط من الراحة، لا يوجد يوم عطلة اسبوعية دون زيارة او عزومة، يا إلهي، متى ستنتهي هذه السلسلة المتواصلة من العزائم ذات السيناريوهات المتكررة! ولا يفوتني أن أذكر تلك العزومة التي يقوم بتنظيمها أهل العريس لأصدقائه وأقاربه ممن (وقفوا له) اثناء حفل الزفاف، حيث يقومون بالتوجه لمنزل والد العريس الذي يكون قد قام مسبقاً بتحضير وجبة غذاء لعشرات الاشخاص الذين يتواجدون في نفس المبنى ان لم يكن في نفس الطابق الذي يسكن فيه العروسان، وكثيراً ما تكون العزومة في صالون الشقة بينما يجلس العروسان في غرفتهما المجاورة ليلة عرسهما والمدعوون منتشرون في الصالون يتناولون طعامهم.

 

تميز أهل هذه المدينة بعزائم فريدة من نوعها، وهي تلك العزيمة التي تتبع حالة الوفاة، فبينما يقوم أهل المتوفى بترتيب اجراءات الدفن يقوم بعضهم بترتيب الامور المتعلقة بعزيمة الغذاء او العشاء، وهي عزيمة ليست بالقليلة، يشارك فيها عشرات الرجال ممن شاركوا في مراسم التشييع والدفن، وتتميز هذه العزائم عن غيرها بالغرابة، إذ ينسى اهل المتوفى مصابهم وسط انشغالهم بترتيب شؤون العزومة او بمتابعة شؤونها، ويتبع عزيمة المتوفى (عزيمة الميت) التي تستمر لثلاثة ايام عزومة أخرى تتبع صلاة العصر في اليوم الثالث، حيث يشارك عشرات الرجال والنساء بقراءة القرآن كل على حدة، وحين يتم إختتام قراءته (ختم الختمه) يأتي دور الكنافه النابلسية الساخنة، لينقض عليها الحضور بسرعة ورشاقة، وعلى الرغم من غرابة هذه الطقوس إلا أنني شعرت بأهميتها يوم وفاة عمي، إذ يفقد المشاركون الكثير من سعراتهم الحرارية نتيجة للجو المشحون بالكآبة والحزن، كما يشعر المرؤ بضرورة العودة الى جو الحياة وحيويتها، ولا بد من شيء يعيد الامور الى نصابها، وتقوم الكنافة النابلسية بما لديها من عشاق ومعجبين ومريدين بهذا الدور الذي يعيد للنفس اتزانها وللروح حيويتها ونشاطها.

 

أما شهر شعبان فيتميز عن غيره من الاشهر الهجرية بعادة نابلسية عريقة، يدعو الرجل شقيقاته ووالدته وعماته وخالاته وغيرهن من نساء العائلة الى عزومة كبيرة تسمى (شعبان)، ويا لهول منظر المنزل حينها، منزل يعج بعشرات الاطفال، مطبخ لا يتسع للعاملات فيه، صراخ الاطفال يصل الى عنان السماء على الدرج وفي كل زاوية من زوايا المنزل، أطفال يتشاكسون ويضربون بعضهم، نساء تصرخن على الاطفال، طفل يبكي هنا وطفل يلعب هناك، أمً تنهال على نفسها بالسباب والشتائم لما يقوم طفلها بفعله، وأم اخرى تحاول جاهدة اسكات ابنها الذي لا يتوقف عن البكاء، وهكذا تستمر رحلة معاناة النساء في شعبان، إذ تبدأ صباحاً بطهي الطعام وتنتهي بعد الظهر بمشاكل الاطفال، ولن أتحدث عن جلسات العتاب واللوم العائلي على قضايا عائلية يتكرر السيناريو الخاص بها في كل العائلات.

 

 وفي كل ما ذكر من عزايم، يبذل صاحب الدعوة جهودة (لتبييض الوجه) ولو أنفق في سبيل ذلك معاشه كله، بل قد يستدين فوق معاشه من أجل مسايرة التقاليد والأعراف والعادات التي لم تكن يوماً جزءاً من الدين الذي لا يكلف نفساً إلا وسعها، لماذا هذا الضغط على الذات وتحميلها أكثر مما تحتمل! لماذا لا نكون على ما نحن عليه! Be yourself  ولا تتصنع البروتوكولات، أحب من أصدقائي ذلك الذي يقاسمني رغيف الخبز ويأكل مما آكل ويشرب مما اشرب ولا يهمه سوى لقائي والاستماع الى حديثي وأخباري، هذا هو الذي انتظر زيارته، دون دعوة، ودون عزومة وفي اي وقت يشاء.

 

 

 

نابلس، 21 اكتوبر 2005

 

 

  

 

تم طباعة هذا المقال من موقع مدينة نابلس الالكترونية: واجهة نابلس الحضارية على شبكة الانترنت (nablus-city.net)

© جميع الحقوق محفوظة

(طباعة)