هدى عبد الهادي
عدد القراءات: 3007

بعيداً عن ارض الوطن في مدينة معان الأردنية ولدت هدى عبد الهادي وهناك أمضت سنوات حياتها الأولى. في ذلك الوقت عام 1936 كان الإضراب الشامل يعم كافة أرجاء فلسطين ومنها مدينة نابلس التي تنتمي هدى الى إحدى عائلاتها المعروفة ،كان والدها صبحي عبد الهادي من أوائل الشبان الفلسطينيين الذين نالوا حظاً وافراً من التعليم فقد أنهى تعليمه العالي في معاهد استنانبول العليا، وفي أثناء الحكم العثماني عين مديراً لمدرسة الأيتام الإسلامية في القدس.

بعد تأسيس إمارة شرق الأردن انتدب صبحي عبد الهادي لإنشاء عدد من المدارس هناك.

 

لم يكن ميلاد هدى بالحدث المفرح والمميز لعائلة تتكون من ثماني شقيقات وشقيقين ومع ذلك والدها لا يظهر تأثره السلبي بسبب إنجاب الإناث هدى تقول بهذا الصدد: "كانت والدتي تحزن كثيراً عندما تنجب البنت، وفي المقابل كان والدي يقول لها لو أن أحدا أهداك ورده فهل تردينها؟ وهكذا البنت".

 

وتسترسل هدى في الحديث عن شخصية والدها التي تبدو شديدة التأثر بها : "لم احظ بالعيش في كنف والدي فترة طويلة، فقد توفي وأنا صغيرة، ولكني ما زلت اذكر بعضاً مما تقوله والدتي وشقيقاتي، فقد كان من الأشخاص الذين عرفوا بالتفاني في سبيل تأدية الواجب التربوي ، فقد واكب بداية النهضة التعليمية في شرق الأردن وهناك كان من الأوائل الذين ساهموا في إقرار إلزامية التعليم ، ساعد في تحقيق ذلك ما عرف عنه من حزم وصرامة ووقار."

 

وتضيف هدى قائلة: "أن هذا الجانب من شخصية والدي كان سبباً في إيجاد نوع من  الحاجز النفسي داخل البيت، فقد كان يثير فينا نوعاً من الرهبة والخشوع، لهذا حرمت وأخواتي من الجلسات العائلية الدافئة، وان كان الأمر لا يخلو من بضع جلسات صفاء ، مما جعلها شيئاً هاماً ومميزاً في طفولتي."

 

أدركت هدى عبد الهادي الجانب الآخر من شخصية والدها حين اقتربت ساعة الفراق ، فقد بدأت تستشعر عطفه وحنانه عندما اخذ المرض يتسلل الى جسده ، حينها كانت اقدر أخواتها على الوقوف الى جانبه، سيما وان شقيقاتها الأكبر منها سناً قد خرجن من دائرة العائلة بسبب الزواج.

 

لم تكن هدى قد تجاوزت الثانية عشر عندما لفظ والدها أنفاسه الأخيرة ، حينها كانت تجلس على فراشه تقرأ القرآن الكريم وتتذكر هدى تلك اللحظات من طفولتها الحزينة فتقول: "كانت المرة الأولى التي أتجرع فيها كأس الحزن والمرارة. افتقدته وفجعت بوفاته لأني أحسست به في أيامه الأخيرة، وظلت مسكونة لفترة طويلة بمشاعر الحزن الممتزج بإحساس المسؤولية الذي فاق عمري في تلك الفترة."

 

بعد رحيل والدها اضطرت اسرة هدى للرحيل مرة اخرى، وكانت هذه المرة عودة الى موطن الآباء والأجداد. استقر بهم الحال في " بيت العيلة" ( وهو من البيوت العريقة والأثرية في مدينة نابلس) يتكون البناء من غرف كثيرة وديوان ذي ساحة واسعة، بالإضافة الى عدد من البرك تتوسط بستاناً كبيراً.

 

في بيت العائلة كانت تنعدم خصوصية الأسر السبعة التي كانت تعيش فيه الا أن تجمع الصبايا في ساحة الديوان وقضاء ساعات طويلة من المرح ولعب البرجيس والغناء كانت من الذكريات الدافئة التي ما زالت تعيش في أفئدة الفتيات اللواتي نشأن فيه.

 

لم تكن هدى كباقي الصبايا اللواتي يمرحن وينعمن بطفولتهن، ففي الوقت التي كانت فيه صبايا العائلة في مرحهن، كانت هي تجلس على الشرفة تقرأ الشعر والأدب.تقول هدى بهذا الصدد: " حرمتني الأيام متعة التنعم بالطفولة فمشهد موت أبى ظل ماثلاً أمام ناظري، جعل الحزن يسدل ستائره قلبي ووجداني، فأدركت  معه معنى الوداع والفراق وفقدان الأحبة".

 

أنهت هدى عبد الهادي تعليمها الابتدائي في مدرسة الزهراء في شرق الأردن، وفي أعقاب النكبة الفلسطينية عام 1948، رجعت اسرة هدى الى مدينة نابلس، لم تكن الأوضاع فيها بحال جيد ، فقد اكتظت مدارسها بآلاف اللاجئين القادمين من المدن الفلسطينية التي احتلتها القوات الصهيونية الغازية. وقد أدى هذا بدوره الى حرمان الطلبة من ارتياد مدارسهم وتلقي علومهم فيها، وقد استمر الحال كذلك حوالي عامين مما دفع بعض الغيورين والغيورات على سير العملية التعليمية الى فتح مدارس أهلية.

 

التحقت هدى آنذاك بالمدرسة الخاصة التي أقامتها الحاجة نوال عبد الهادي هناك تركز اهتمام المعلمات على تطوير النشاطات اللامنهجية ولم يكن الاهتمام بالحركة الثقافية يوازيه اهتمام مماثل بتطوير الوعي السياسي والوطني لدى الطالبات، وتعلق هدى بقولها: " رغم جسامة الأحداث وألوف النازحين، لم يتبلور لدينا آنذاك وعي وطني لطبيعة المؤامرة الموجهة للوطن والشعب فكنا بعيدات عن الهموم التي حاقت بشعبنا من تشريد وتجويع واستلاب للأرض والإنسان".

 

أكملت هدى تعليمها الابتدائي في المدرسة الفاطمية للإناث حتى الصف السابع وكان يعرف آنذاك " بصف الختامة" والمقصود ختم القرآن الكريم، وقد انتقلت بعد ذلك الى المدرسة العائيشة على تطوير الوعي الثقافي للطالبات مما كان له كبير الأثر في تنمية وتطوير القدرات الذهنية والكتابية والفنية لدى الطالبات.

 

وتذكر هدى في هذا السياق المعلمة الفاضلة عفاف عرفات فتقول : امتازت المربية عفاف بأسلوبها الفني الرفيع  السلس والسهل، فكان لها مقدرة خاصة على تدريس الفن كمادة ممتعة وشيقة ومحببة، علاوة على أسلوبها المميز في تدريس اللغة العربية فكانت تشجعنا على المطالعة. فما أن شارفت المرحلة الثانوية على الانتهاء حتى كنت قد قرأت معظم مؤلفات المنفلوطي والسباعي وروايات إحسان عبد القدوس وجورجي زيدان وغيرهم، لهذا اعتبر أننا جيل يملك قسطاً من الثقافة، ولكن في المقابل كان ينقصنا في تلك المرحلة الوعي الوطني والسياسي لما يواجه الوطن من تحديات.

 

 

في عام 1952، وبعد انتهائها من تأدية الامتحانات المدرسية ، تزوجت هدى من قريب لها بالطريقة التقليدية. كان يسكن في بيت العائلة في غرفة مجاورة لبيت أهلها، وقد بدا أن هذا الزواج قد رتب من قبل الأهل فلم تفاجأ به، ولم تحاول الاعتراض عليه رغم فارق السن الذي يفصل بينهما. وهنا تعود بذاكرتها الى تلك الأيام فتقول: "يومها لم اكن أتجاوز السادسة عشرة من عمري عندما تقرر الزواج ، وكأية فتاه مراهقة اعتقدت أن الزواج يعني بيتاً وزوجاً وأولاداً، ولكن الى جانب دوافع المراهقة كانت تكمن دوافع اعمق، فقد أردت تخفيف المسؤولية عن والدتي التي كانت تعيل خمسة أطفال آخرين، ولم يكن لها الا راتب تقاعد والدي لتعتاش منه، كما أنني كنت أدرك ، رغم صغر سني، أن رفضي للزواج سيخلق مشكلات لا طائل لها في الوسط العائلي".

 

وهكذا ودعت هدى أسرتها الأولى وبيت العائلة التي قضت فيه ذكريات الطفولة الحميمة، وبعد مرور اسبوع على زواجها صدرت نتائج الامتحانات، ونجحت هدى وترفعت الى الصف الرابع الثانوي. وهنا اطرقت السيدة هدى رأسها بحزن وقالت: " كان يوماً مشهوداً لن أنساه ما حييت، أجهشت بالبكاء طويلاً لكن لا أحد يسمع، طلبت استكمال تعليمي فلم أجد لطلبي جواباً، عندما أدركت أن زواجي لم يكن متجانساً وانه يناقض طموحاتي. ومع ذلك لم يعرف اليأس طريقه الى نفسي، فبعد أن أنجبت ابنتي الأولى ليلى سمعت أن وكالة الغوث بحاجة الى معلمين ومعلمات للعمل في مدارسها. فبسبب تدفق المهاجرين أخذت الوكالة بتوظيف اكبر عدد من المعلمات ولو بمؤهل أكاديمي متوسط، فقدمت طلباً للحصول على وظيفة، وقبلت للعمل في سلك التدريس".

 

لم يكن الزواج والإنجاب يقفان حائلين دون استكمال هدى لدراستها، وتشير لذلك بقولها: "كان زوجي يقضي معظم أوقاته مع أصدقائه ، كما أن طبيعة عمله تطلبت منه قضاء أوقات عديدة خارج البيت، وهذا الأمر اثر علي ايجابياً، فقد وجدت نفسي غارقة في الدراسة وتحقيق تطلعاتي واحلامي، فان كنت لم أجد نفسي في الزواج فقد وجدتها في الدراسة والوظيفة التي حققت لي نوعاً من الاستقلال الاقتصادي الذي كان أول الخطوات على طريق تحقيق الذات".

 

وتتابع هدى عن حياتها المهنية:

 

في عام 1954، عينت مدرسة في مخيم بلاطه، وكانت غرف التدريس تتألف من عدة خيم متلاصقة، حيث كان البناء في مرحلة الإعداد من قبل وكالة غوث اللاجئين. أن حبي لمهنة التدريس وايماني المطلق أنني املك موهبة طبيعية لاداء مهنة التعليم جعلاني لا أتردد لحظة واحدة في الانضمام لدورة تدريبية للمعلمات في معهد المعلمات الحكومي. وكانت تديره آنذاك ( مس اولغا وهبه).

 

كانت المرة الأولى التي اخرج فيها من البيت، لذا واجهتني صعوبات عديدة فابنتي ليلى لم يكن عمرها يتجاوز تسعة اشهر، وكنت حاملاً في شهري الثالث، ومع ذلك أنجزت الدورة بنجاح، وكانت نقطة البداية من اجل تحقيق طموحاتي في مواصلة تعليمي المستمر، الذي ينادي به اليوم معظم التربويين تحت شعار التعليم المستمر، ولكني بدأت به بطريقة عفوية وذاتية من اجل تحقيق ذاتي وتطويرها أكاديميا ومهنياً.

 

في مدرسة المخيم، امتازت علاقتي مع الطالبات بالتفاعل الإيجابي والأخوي، فقد اتبعت نمطاً جديداً من التعامل معهن قائماً على أساس الاحترام المتبادل والوعي النقدي، لم اكن أتجاوز حينذاك الثامنة عشرة، هذا السن كانت تقارب أعمار طالباتي اللواتي تأخر انتظامهن في المدارس بسبب النكبة شردتهن من ديارهن.

 

آما تجربتي في مدرسة بلاطة، فقد كانت بمثابة عصر ذهبي في حياتي التربوية. هناك تبلور إحساسي بالانتماء، فقد عايشت معاناة اللاجئين من خلال مشاهداتي اليومية للطوابير التي تنتظم تحت أشعة الشمس الحارقة صيفاً، وفي البرد القارس شتاءً، من اجل كوب من الحليب، أو وجبة غداء. وبنفس الوقت كانت ترتسم في مخيلتي صورة مناقضة للشرائح الاجتماعية التي تقبع في برجها العاجي بعيداً عن هموم النكبة، هذه الصورة المتناقضة كانت ترتسم أمامي يومياً على صعيدين: في حياتي المهنية، وفي المجتمع الذي كنت أعيش  فيه.

 

بعد أن قضيت ست سنوات في مدرسة المخيم، انتقلت للتدريس في مدرسة إناث نابلس التابعة لوكالة الغوث، واجهتني آنذاك حادثة لا زلت اذكرها رغم مرور السنين فقد فاجأني "أمين السوداني" مفتش اللغة العربية في الوكالة، بزيارة تفتيشية دون سابق إعلام. دخل الصف الثالث  الإعدادي الذي كنت اعلم فيه مادة اللغة العربية ، وبعد الزيارة اخذ يعبئ نموذج التقرير الخاص به ففوجئ أنني كنت أقوم بتدريس الطالبات في المرحلة الإعدادية مع أنني احمل نفس المؤهل، حينها كتب في التقرير الخاص الذي قدمه للوكالة أنني معلمة ذات أداء جيد، الا أن مؤهلي الأكاديمي يتنافس وتدريس المرحلة الإعدادية.

 

على اثر هذه الحادثة، قررت تحقيق مزيد من التصميم لإتمام تعليمي، فسجلت في نفس السنة لفحص المعلمين الأدنى، ثم اتبعته بالحصول على شهادة الثانوية العامة التي اعتبرها نقطة إطلاق هامة في مسيرتي التربوية، واذكر أنني احتفلت بهذه المناسبة التي انتظرها طويلاً. في تلك الفترة كان عندي أطفالي الأربعة ليلى، لبنى، عزت وقيس".

 

تعزو السيدة هدى الفضل في تقدمها الأكاديمي والمهني الى والدتها التي وفرت لأطفالها الرعاية والاهتمام والحنان والدفء . فقد كانت تسكن بجوار منزلها، حيث يقطن أبناء العمومة في بيت العائلة. وهنا تتذكر والدتها وقد بدا عليها التأثر البالغ لذكرى الام الغالية التي توفيت منذ عشرين عاماً، فتقول:

 

لن أنسى فضل والدتي رحمها الله، فهي السبب في استقرارا حياتي الزوجية، كانت دعماً ورافداً لي في هذه المسيرة الشاقة وخصوصاً في بدايتها. كنت صغيرة السن عديمة التجربة، فكانت تشجعني على الثبات بقولها: "انت افضل من غيرك لأنك تعملين ومسؤولة عن نفسك اقتصادياً، ولك خمس جواهر وهم اثمن ما في الحياة".

 

لم ترض السيدة هدى لنفسها أن تكون أماً عادية، غير متعلمة، ولم ترض أن تعيش حياة هامشية، وإنما سعت جاهدة لتطوير ذاتها اجتماعياً وفكرياً وثقافياً واقتصادياً، فركزت جل اهتمامها على أولادها وحرصت على تنمية حب العلم والتعليم في نفوسهم، وان ينالوا قسطاً وافراً من التعليم فاستطاعت بذلك أن تشكل النموذج الملهم للمرأة المثابرة الطموحة.حصل ابنها الأكبر عزت على ماجستير في العلوم السياسية ويحضر حالياً لنيل درجة الدكتوراه، ويدير في الوقت الحالي مركز بيسان للبحوث والإنماء في  رام الله حيث يقيم مع عائلته.

 

نالت ابنتها البكر ليلى شهادة البكالوريوس في اللغة العربية، وتقيم حالياً مع زوجها في القاهرة. حصلت لبنى على البكالوريوس في السياسة والاقتصاد وتعمل في مركز أبحاث جامعة بير زيت. لينا اتمت رسالة الماجستير في القانون الدولي، وتقيم حالياً مع زوجها في عمان. واما الابن الأصغر قيس فيدرس حالياً في جامعة النجاح.

 

شاءت الأقدار أن تتوقف مسيرة هدى الجامعية، وكانت قد بدأتها في دمشق عام 1965 فقد نشبت حرب حزيران 1967 أثناء تقديم امتحانات السنة الثانية فلم يكن أمامها سوى العودة الى نابلس، حيث زاولت عملها في التدريس في مدرسة إناث نابلس الإعدادية التابعة لوكالة الغوث.

 

لم تبتعد السيدة هدى عن جماهير شعبها، فواصلت تدريس مادة القضية الفلسطينية مع ان السلطات منعت ذلك، الا أنها صممت على المضي في تدريس هذه المادة ضمن حصص الاجتماعيات التي كانت تدرسها. كان هذا التصميم محاولة منها لتثبيت الوعي الوطني وتعميمه لدى الطالبات، لقد عملت تلميذاتها أن التاريخ مزور وان تاريخنا الحقيقي لم يكتب بعد ، وان يافا والناصره وصفد هي مدن فلسطينية ويجب أن تظل محفورة بالذاكرة. تعقب السيدة هدى على ذلك بقولها: " كنت اعتبر أن  واجبي الأكاديمي تجاه تلميذاتي يشكل الحد الأدنى من المشاركة النضالية في مرحلة التحرر الوطني، لذا امتازت علاقتي بالطالبات بالانفتاح والحوار البناء والتفاعل الإيجابي ، ومن خلال ذلك كنت اشعر أن الإحساس بضرورة المقاومة والمشاركة في النضال قد بدأ يشق طريقه الى تلم القلوب الفتية".

 

إن اهتمام هدى بالجيل الجديد لم ينقطع يوماً وعلى مدار الأعوام ال 35 عاماً من تاريخها التربوي الطويل، لقد آمنت بالجيل الجديد وعملت طوال الوقت من أجله، فليس غريبا على هذه الشخصية أن تزعج الاحتلال رغم أنها لم تحمل حجراً أو سلاحاً، بل حملت فكراً أقوى من السلاح. لقد شعر الاحتلال بخطر هذه المرأة التي لم  تفتأ توضح للطالبات أن التخلف والأمية والأفكار القديمة هي من نتائج الاستعمار.

 

لم يغفل عنها الاحتلال طويلاً، ففي إحدى الليالي الرمضانية فوجئت السيدة هدى بجنود الاحتلال يداهمون البيت في ساعة متأخرة وفي نيتهم إبعادها. وتعود بها الذاكرة الى تلك الليلة فتقول: "كان زوجي يقضي سهرته الرمضانية المعتادة، وكان الأطفال نائمين فلم أجد أمامي سوى الامتثال لأوامرهم وفي سجن نابلس وضعت في غرفة انفرادية حتى الفجر ، ثم نقلت بسيارة عسكرية الى الجسر وهناك أجبرت على توقيع أمر الإبعاد، واذكر حينها أن أحد الضباط طلب مني ترك رسالة لأهلي. عندما أحست بمرارة الإساءة فقلت: " بلادي وان جارت علي عزيزة وأهلي وان ضنوا علي كرام".

 

عندما وصلنا الى الجانب الأردني من الجسر، اقتادنا المسئولون الى مديرية مخابرات السلط ومنها مخابرات عمان. وفي صبيحة اليوم التالي، علمت أسرتي بنبأ الإبعاد بواسطة المذياع، وكذلك والدتي التي كانت تسكن آنذاك في عمان، وكنت حتى تلك الساعة في غرف التحقيق".

 

قضت السيدة هدى أيامها الأولى بعد الإبعاد في حركة دائمة مع الإعلام الصحفي المحلي والعربي والعالمي، فقد كانت عملية الإبعاد هذه الأولى من نوعها بعد الاحتلال، وقد أبعدت معها مديرة المدرسة العائشية آنذاك السيدة نوال التيتي بالإضافة الى ثمانية معلمين من مختلف المناطق.

 

هناك شرقي النهر، استمرت السيدة هدى في عملها مع وكالة الغوث في كل من مدارس الزرقاء ومخيم الوحدات الذي قضت فيه التجربة الأكثر زخماً، فقد عايشت السيدة هدى تواجد الثورة الفلسطينية في أحضانه، ولكن قدر لها بعد فترة قصيرة أن تعايش أحداث أيلول الأسود، وشاهدت بأم عينها ما حدث هناك من مجازر دموية بشعة بحق أبناء شعبها. وتحدثنا عن تلك الأيام قائلة: "لقد شهدت بداية النهاية للتواجد العسكري للثورة الفلسطينية في مخيمات الأردن، مع  أنها استطاعت خلال الفترة القصيرة التي اشتد عودها فيها أن تخلق وتبلور الشخصية الفلسطينية، فلم يعد الإنسان الفلسطيني ذاك اللاجئ الذي يقف على أعتاب مراكز الوكالة بانتظار قليل من المؤن، بل الثورة خلقت فيه إنسان جديداً فهو الفدائي والمناضل والمكافح ذو الكبرياء والعنفوان."

 

في خضم تلك الظروف، شاركت السيدة هدى مجموعة من المعلمين بتأسيس نواة الاتحاد العام للمعلمين الفلسطينيين، فأخذت هذه المؤسسة تشق كطريقها ضمن ظروف سياسية قاسية، عانى فيها الفلسطينيين من الظلم والاضطهاد، فكان ظلم ذوي القربى اشد مضاضة

 

كانت رئاسة الوكالة في عمان أول سلطة يواجهها  اتحاد المعلمين، فقد صدرت عدة قرارات مجحفة بحق العاملين فيها. وتذكر هدى في هذا السياق موقفاً لأحد زملائها فتقول: " بعد إصرار رئيس عمليات الوكالة على عدم سماع مطالبنا قام هذا الزميل يدفع باب الرئيس قائلاً : إحنا ما صرنا لاجئين علشان تجلس انت على الكرسي، وانت موجود هون علشان تخدمنا وتلبي مصالحنا.

 

وهكذا أثبتت السيدة هدى أن النضال عملية مستمرة سواء كانت على ارض الوطن أم خارجه فقد اختارها الاتحاد العام للمعلمين لتكون ممثلاً عنه في عضوية المجلس الوطني الفلسطيني، فكان لها شرف تمثيل المرأة ، ولأول مرة، في المجلس الوطني الفلسطيني ضمن دورته التاسعة التي عقدت آنذاك  بالقاهرة.

 

لم يفارقها الحنين الى وطنها يوماً، وبالذات بعد أحداث أيلول، فلم تعد تطيق الحياة هناك، ولهذا  استمرت باتصالاتها مع مكتب وكالة الغوث في نابلس وعدد من الجمعيات من اجل مساعدتها في العودة. وفي أيلول سنة 1971، أثمرت جهودهم بإلغاء قرار الإبعاد، فكانت فرحتها عظيمة. ورغم وصول السيدة هدى الى مركز صنع القرار، الا أن هذا الوضع المميز لم يمنعها من العودة الى وطنها لأنها تعتبر أن النضال الحقيقي يتجسد في العودة والصمود.

 

عادت السيدة هدى الى مدينتها، وعينت مديرة للمرحلة الابتدائية في مخيم بلاطه ، بعد أن أمضت ثلاث سنوات خارج حدود موطنها. لم يعجبها النظام المتبع في مدارس الوكالة آنذاك، فقد كانت تنتظم المرحلة الابتدائية في الفترة المسائية، في حين تخصص الفترة الصباحية للمرحلة الإعدادية. أدركت السيدة هدى بحسها الإنساني المرهف معاناة التلميذات خاصة اللواتي لم يتجاوز عمرهن السبع سنوات، فهؤلاء ينعدم الإحساس بالزمن لديهن لان الأهالي يرسلون بناتهم قبل الدوام بعدة ساعات، فيبقين في الشوارع بانتظار رحمة مدرسات الفترة الأولى لفتح الباب لهن.

 

وتستطرد السيدة هدى بالحديث عن الوضع القائم المؤلم قائلة: " إن التلميذة في هذا السن تكون في أمس الحاجة للنوم والغذاء الجيد وفقدان كل ذلك يؤثر سلباً على سير العملية التربوية وهذا ما أوضحته من خلال عدة تقارير قدمتها لرئاسة الوكالة بهذا الخصوص، وقد بينت فيها أن مدارس  الوكالة في الدول المضيفة تتبع النظام التبادلي ( نظام الفترتين). الا أنني جوبهت بعدم الاكتراث من قبل الرئاسة، ومن هنا بدلأ صراعي مع سلطة الوكالة من اجل تحقيق هذا المطلب الذي توخيت من خلاله حماية التلميذات من برد الشتاء وحر الصيف، واذكر حينها أن القشة التي قصمت ظهر البعير، كانت وقوفي في أحد الاجتماعات مهددة لسلطة الوكالة بجلب عدة خيام ووضعها في ساحة المدرسة بمساعدة أهالي المخيم. فما كان منهم الا أن قاموا بتحقيق هذا المطلب الذي هو حق لأطفال حرموا من نعمة العيش في ظروف إنسانية ملائمة".

 

 

كانت السيدة هدى صاحبة الفكرة الرائدة لإنشاء هذا المركز فقد أدركت عبر مواكبتها للأوضاع الاجتماعية البائسة التي تعيشها نساء المخيم أن المرأة هناك تعاني من اضطهاد مركب، فهي مضطهدة طبقاً لكونها إنسانة فقيرة تقطن في تلك الغرف الصغيرة المنغرسة في الوحل والغبار، وهي مضطهدة اجتماعياً  لكونها أنثى في مجتمع يسوده الطابع الذكوري، ناهيك عن اضطهاد الاحتلال الذي لا يفتأ يوجه ضرباته نحوها لما عرف عنها من صلابة وعنف في المواجهة والكفاح. كل ذلك أحست به السيدة هدى فصممت أن تزرع البسمة على وجوه فتيات المخيم.

فانتزعت في البداية قطعة ارض من سلطة الوكالة ثم أخذت تجمع حولها نخبة من النساء الفاعلات ، فكانت منهن الممرضات والمعلمات وغيرهن من النساء العاملات.

 

وتسترسل السيدة هدى في الحديث عن أهداف المركز فتقول:" لقد انبثق هذا المركز الى حيز الوجود من اجل رفع مستوى المرأة الفلسطينية فمخيم بلاطة اجتماعياً وثقافياً واقتصادياً وتحقيق ممارستها  لحقوقها كمواطنة وعاملة وربة بيت بالإضافة الى سد بعض الاحتياجات الضرورية في المخيم. كما أن هذا المركز كان من  أوائل المراكز التي وضعت نصب عينيها إبراز تراثنا الفلسطيني من أزياء شعبية ودبكات واغنيات، وتقديم مسرحيات تبرز واجب المواطن الفلسطيني نحو وطنه وأمته. وقد تبنى المركز وكذلك برنامجاً للتثقيف الصحي الذي مولته خدمات الإغاثة الكاثوليكية، بالإضافة الى برنامج تدريب المعاقين.

 

وتستطرد السيدة هدى في الحديث عن دورها في هذا المركز قائلة: " لقد شغلت منصب الرئيسة لهذا المركز عدة سنوات، فلم اكن كأية مديرة تؤدي واجبها التربوي ثم تعود الى بيتها، وإنما كنت امضي سحابة نهاري في المركز مع الفتيات اللواتي كن صديقات وأخوات لي، وكذلك كنا نقوم سوياً بزيارة أهالي المعتقلين والشهداء، فكانت أيام حافلة بالعطاء".

 

 

وبسبب تفاعلها الإيجابي مع سكان المخيم، اتهمتها سلطات الاحتلال  بالتحريض لما كان يحدث آنذاك من تظاهرات ومسيرات شعبية، فكانت تستدعى بشكل يومي الى مقر الحكم العسكري في المدينة، وتقضي هناك ساعات طويلة في غرف التحقيق، وأطول منها في ساحات الانتظار.

أمضت السيدة هدى اكثر من عام على هذه الحال من الاحتجاز اليومي، ولم تكتف السلطات بذلك، بل قامت باعتقالها عدة أيام في سجن نابلس المركزي دونما تهمة محددة.

 

لم تواجهه السيدة هدى سلطات الاحتلال فحسب، بل واجهت معها أيضا سلطة وكالة الغوث التي حاولت فرض سيطرتها على المركز واعتباره أحد مؤسساتها، الا أنها رفضت ذلك لأنها تؤمن باستقلالية العمل، على اعتبار أن التبعية قد تؤثر على نشاطات المركز. وفي هذا السياق تقول السيدة هدى: "رغم الإحباطات المتكررة من قبل سلطة الاحتلال ، ومن بعض الذين لم ترق لهم فعاليات المركز، الا أنني كنت مؤمنة بانتمائي والتزامي في المخيم، باعتبارها تتحمل الجزء الأكبر من هموم هذا الشعب ومآسيه.

 

مع عودتها الى نابلس في بداية السبعينات، بدأ وعي جديد يتبلور لدى السيدة هدى فازدادت نضوجاً وحكمة، لقد أدركت أن النضال الوطني وحده لم يعد كافياً في ظل الاحتلال، وأن ربط النضال الوطني بالنضال الاجتماعي اصبح ذا أهمية بالغة لتحقيق أهدافنا في الحرية والاستقلال ، فاتجهت الى المشاركة في بعض الجمعيات الخيرية، وحاولت تغيير الأفكار التقليدية والتركيب التقليدي لهذه الجمعيات عبر دعوتها لتعميق الديمقراطية وتوسيع الهيئات العامة بعناصر جديدة وشابة ، والدعوة لإجراء انتخابات دورية لإتاحة الفرصة أمام الجيل الجديد لنشر أفكاره، مع أهمية التواصل مع الجيل القديم ذي التجربة الرائدة على صعيد العمل الخيري.

 

شغلت السيدة هدى عدة مناصب إدارية في جمعيات المدينة، انتخبت لعضوية الهيئة الادارية للنادي الثقافي الرياضي عام 1975، وفي عام 1981 شغلت منصب أمينة سر الهيئة الادارية لجمعية الاتحاد النسائي العربي ، ومن موقعها ذاك كانت تقوم بدور الناطقة الإعلامية لهذه المؤسسة.

 

ومما يجدر ذكره أن نشاطها الاجتماعي شهد نقلة نوعية إبان الانتفاضة، فقد تحول من كونه عملاً خيرياً اجتماعياً الى دور فعال في الحركة النسوية الفلسطينية، وقد تجسد ذلك عبر مشاركتها في فعاليات عديدة، كان من أبرزها عضوية اللجنة التأسيسية لمنظمة المرأة العالمية للسلام والحرية- منظمة عالمية  لها فروع في معظم أنحاء العالم ومقرها السويد- وتهدف الى نصرة قضايا الشعب الفلسطيني ، وإبراز صورته الواقعية كشعب ينشد الحرية والعدل رغم معاناته من الفقر والتشرد والاعتقالات.

 

ومن منطلق إيمانها بأهمية دور المرأة في بناء البنية التحتية للدولة الفلسطينية، شاركت السيدة هدى غيرها من النساء من خلفيات مهنية وفكرية ومؤسساتية مختلفة في تقييم دور المرأة الفلسطينية وطبيعة المهام الملقاة على عاتقها، وذلك في مؤتمر " الانتفاضة وبعض قضايا المرأة الاجتماعية" الذي أقامته لجنة الدراسات النسوية في مركز بيسان.

 

إن جل اهتمام القيادة الموحدة انصب على تطوير الدور الكفاحي للمرأة الفلسطينية، ولم تهتم هذه القيادة بتطوير الجانب الاجتماعي أو تقديم حلول، ولو جزئية، لجملة المشاكل الاجتماعية التي تواجهها المرأة ، معتقدة انه من السابق لأوانه الحديث عن الموضوعات الاجتماعية والنضال الديمقراطي بوجه عام، ومتوهمةً أن دور المرأة الكفاحي والسياسي يمكن أن يستمر بدون التصدي لحل مشاكلها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية . إن تطور المرأة في هذه المجالات يعد شرطاً أساسيا لتطوير دورها الكفاحي والسياسي وتعزيزه ، فالحديث عن النضال الوطني بدون برنامج تنموي يضع قضية المرأة على رأس أولوياته يصبح نوعاً من الرياضة الذهنية والترف النظري."

 

وأخيراً، فقد أعطت السيدة هدى بثقافتها ووعيها نموذجاً للمرأة الفلسطينية، فحياتها مليئة بالتحدي والكبرياء والتجربة الناضجة والعطاء المتواصل. فهي المربية القديرة التي عملت في مدارس وكالة الغوث اكثر من 35 عاما ، فاستطاعت رغم كل الأنظمة التربوية الفاسدة أن تزرع الأمل وحب العلم وعشق الوطن، وهي التي حملت رسالة مقدسة ومشت في الدرب الفلسطيني الطويل.

تم طباعة هذا المقال من موقع مدينة نابلس الالكترونية: واجهة نابلس الحضارية على شبكة الانترنت (nablus-city.net)

© جميع الحقوق محفوظة

(طباعة)