الدراجة المفقودة
عدد القراءات: 1954

 

كان بركات في العاشرة من عمره عندما نادى المنادى بأهالي قرية يازور للرحيل بسرعة عن القرية، لم يفهم بركات ما يجري حوله، لكنه رآى مجموعات من فلاحي القرية تنزح عنها بإتجاه مدينة اللد، طلبت منه والدته الاسراع، يجب ان نسرع في الخروج، والا فقد نموت ونقتل هنا، وخرج مع اهله دون ان يحملو معم شيئاً.

 

وبعد الوصول الى مدينة اللد التي تبعد عن قريته مسافة كبيرة، تشردت اسرة بركات في عدة منازل من منازل المستضيفين في اللد، بقي بركات شارد الذهن، يفكر في العودة ليازور، ولكن الطريق الى يازور موحشة، فقد تم تهجير القرى الممتدة بين يافا واللد، وانتشرت العصابات القادمة من وراء البحار مثيرة الرعب والدمار.

 

يجلس بركات مع صديقه محمد على قارعة الطريق، يستذكرا الامس القريب، يوم كانا يقودان دراجتيهما في شوارع البلدة، ويتوجهان بهما الى البيارات لإيصال الطعام لاهلهما، ثم ليذهبا في ساعات المساء الى التل المشرف على مدينة تل ابيب، ليشاهدا اضواءها البعيدة ويشما رائحة بحر يافا القادمة من مكان غير بعيد.

 

اصبح بركات وصديقه محمد لاجئين بين ليلة وضحاها، لا يجدان ما يبرر وجودهما هنا، لماذا نجلس هنا ونترك دراجاتنا الهوائية لهذه العصابات الغريبة! لماذا لم نأخذها معنا عندما هاجرنا من يازور! يا لها من خطيئة، يا ليتنا لم اصطحبناها معنا يوم الرحيل، يجب علينا إستعادتها قبل فوات الاوان.

 

وبقي الصديقان يفكران، كان المستعمرون الجدد قد اغلقوا الطرقات المؤدية الى المدن والقرى التي سيطرو عليها، ولكن رغبة استعادة الدراجة استحوذت على تفكير الصديقين، وانجرفا نحو مغامرة قاما بها لاستعادة الدراجتين.

 

في صباح اليوم التالي، نهض بركات ومحمد باكراً، وتوجها عبر التلال والحقول، مشيا مسافات بعيدة، وقبيل وصولها الى يازور، بدءا بالالتفاف حول القرية من اجل التأكد من عدم وجود احد، وأخيراً دخلا القرية، وبدأو الركض الى منزل بركات، حيث إعتادا على وضع الدراجتين في بهو المنزل، نظر بركات من ثقب الباب، رأى الدراجتين لا زالتا في موقعهما، ارتاح وشعر بالسرور، وأشارلمحمد أن يصعد الى اعلى الباب لسحب المزلاج، وعندما انحنى بركات على ركبته لتمكين لمحمد من الصعود على ظهره، سمع صوتاً من بعيد، صوتاً على سكة الحديد، ومن شدة الخوف قفز فجأة، ولاذ الصبيان بالفرار الى الحقول الخلفية.

 

وبينما كان الصبيان يركضان، شاهدا رجلا يحاول دفع سيارته التي اثقلها بالمتاع، ولكن بطارية السيارة لم تعمل، سأل بركات الرجل عن وجهته، فقال الرجل انه يريد التوجه الى يافا، فقال له بركات، ولماذا تذهب الى يافا؟ لقد سقطت جميع القرى المحاذية ليافا، وستسقط يافا، لكن الرجل لم يوافق على تغيير خطته، كان مصراً على الذهاب الى يافا رغم بدء نزوح اهلها عنها،  قام الصبيان بمساعدة الرجل على أمل أن يغير رايه ويذهب الى اللد ويأخذهما معه، وعندما دفعا السيارة بقوة الى منحدر، تمكن الرجل من تشغيل السيارة وانطلق مسرعا الى يافا، بينما كانت طريق الصبية في الاتجاه المعاكس، الى اللد.

 

استمرا في الركض الى ان وجدا رجلاً أصماً يركب حصانه، كان هذا الرجل من سكان يازور الذين نزحو عنها قبل ايام،، كان قد عاد سراً من اللد الى يازور ليأخذ تنكة من الكاز كان قد تركها يوم الرحيل، وكانت قد بلغت اسعار المحروقات أرقاماً قياسيةً، شعر الصبيان بالجوع، فطلبا من هذا الرجل ان يلتقط لهما بعض البرتقال الذي لا يزال على الاغصان العالية، فنزل الرجل عن حماره وقطف لهما الى ان شبعا، وبينما لا زال الرجل على الشجرة، أشار بركات لصديقه ان يركب خلفه على الحمار ويلوذا بالهرب، فقد تأخرا كثيراً عن العودة للد، خاصة وانهما لم يبلغا احداً بمغامرتهما هذه، واسرعا الى الحمار وانطلقا، واندفع الرجل خلفهما يصرخ وينادي.

 

وبعد ان شارف الصبيان على حدود مدينة اللد، اطلقا سراح الحمار، وعادا الى ذويهما، لم يتحدث بركات لأهله عن القصة الحقيقية لإختفائه ذلك اليوم، إذ كانت مغامرة إستحق عليها العقاب، ولكنه حدثني بها وأنا أزوره بعد أن أجرى عدة عمليات جراحية في قلبه وهو في السبعين من عمره، قال لي وهو يتنهد: لا بد أن الإرادة الالهية تعاقبني الآن على ما فعلته بذلك الرجل حين سرقت حماره ذات يوم.

 

****

تم طباعة هذا المقال من موقع مدينة نابلس الالكترونية: واجهة نابلس الحضارية على شبكة الانترنت (nablus-city.net)

© جميع الحقوق محفوظة

(طباعة)