محمد البيشاوي...كنزنا المفقود... في ذكرى غيابه الخامسة...
محمد البيشاوي...كنزنا المفقود... في ذكرى غيابه الخامسة...
محمد البيشاوي...كنزنا المفقود... في ذكرى غيابه الخامسة...
عدد القراءات: 2306

كتبت: ميرفت صادق

 

تمام الساعة الواحدة ظهر الحادي والثلاثين من تموز 2001 ... كان محمد البيشاوي ينهي بعض أعماله الكتابية بين خبر وتقرير، ويجالس أصدقاء جاؤوا لزيارته " على حين اشتياق "...

يتحدث قليلا، وينهي خبرا هنا... ثم يملي عينيه من الوجوه والتفاصيل حينا آخر...

بعد قليل.. يخبر من في المكتب:" ما في وقت..لازم ألحق الشيخ جمال..". كان قد رتب موعدا لمقابلة صحافية مع الشيخ جمال منصور في آخر يوم له مع آخر لقاء... وآخر الدقائق...

ثم مشى باتجاه المكان، غير بعيد من عمله..." خطواته متراكضة حينا، وهادئة أحيانا، لكن متحفزا، وذو باع في ملاحظة تفاصيل ما يدور حوله.."..

ارتدى في ذلك اليوم على غير عادته، لباسا جديدا.." بلوزة بلون كحلي.."..وقد عرف بزهده في أمور المظهر والشكل...

الواحدة والنصف ظهرا... قبل المجزرة بدقائق، كان محمد يستقر بانتظار مقابلة الشيخ جمال منصور... وكان بانتظارهما برفقة صحبة عديدين... مفاجأة متفجرة...وموعد مع الجنة...

بعد خمسة سنوات من غيابهم " الشيخ جمال منصور والشيخ جمال سليم وعمر منصور وعثمان قطناني وفهيم دوابشة.." ... ومن غياب محمد... نكتب بعد خمسة أعوام على غيابه...أمام صورة له على جدار في مكتبه تصدم الداخل.. تحدث بصمت، تثير تفاصيل من غابوا جسدا وظل حضورهم قائما... فكرا وروحا واجتهادا.... وعيونا متعبة بحزم مثقل...!!!

في دائرة قلوب محبي محمد.... لم نشهد انسانا حزنت عليه قلوب كما أطبقت على النفوس آلام بحجم فراقه...

روى مرة، في أيام حظيت بحضوره، زمانا ومكانا.. وبنبرة صوته الدافىء المغمور سخرية..:" لم تكن حياتي سهلة..ما بين عام وآخر كنت أكبر في فقر مخيم بلاطة المدقع"... ثم صادر السجن أيام شبابه الأولى...:" واستكملت حلقات حزني عندما ماتت أمي وأنا ملقى في خيام سجن مجدو ذات صيف..".. وكان والده قد سبقها حين طفولة لم تكتف من أبوة بعد...

واستنطاقا لألمه... لطالما خط بأحرفه الجميلة المميزة على دفاتره الجامعية أبياتا تشي بشوق موصول لأمه المفقودة منه قسرا، وراء الحياة خارج سجنه...

وفي إحدى دفاتره كان يردد دوما، بيتا من الشعر..:

أمي هي الدنيا وزهرتها...يحيا بظل حنانها أملي...

...

وقبل يومين من ذهابه في مشواره الأخير...قال بصيغة من يستشرف شيئا لا يرى إلا بالقلب..، قال:" أريد أن تعتنوا جيدا بأختي اذا ما تعرضت لشيء.."، أخته كانت عائلته الوحيدة... كل من بقي له بعد والديه..." كان يعيش لأجلي" كما قالت يوما..كي يفرح بها " عروسا" ويتراكض ابناؤها حوله... حدث هذا تماما... ولكن بعد استشهاده بفترة قصيرة...!!!

استوقفتنا كلماته.. ودهشنا من صيغة الذهاب المزمع في عينيه يومها.. أجبناه بشيء من المزاح الساذج:" انت جرب استشهد، وشوف..!!".. ولم يتأخر في تنفيذ نصيحتنا كثيرا..

في تلك الأيام.. كان محمد ينهي عامه السابع والعشرين... ولطالما حزنا من بعده ... على عمر قصير مليء بالحزن، لم يشفع له شبابه بقليل من الفرح... وطاردتنا كلمات لشاعر تصادف ان كتب في قصيدة ما..:" منذ أعوام ونحن نعرفه لا زال في السابعة والعشرين.."..

مرت سنوات طويلة على اعتقاله..وفيما بعد سارع في التقاط الحياة مرة أخرى على ناصية تعبه.. والتحق بالجامعة ودرس الصحافة...تلك الروح النشطة التي اتخذها مهنة للوقت في السجون...وكان يعد نفسه لمكانة جميلة بين صحافيين أقلاء في مجال الكتابة الجيدة، وجبلت هذه المكانة بألم وتجربة لم تتسع لها سنوات عمره القليلة..

عرفناه...ساير الحياة بطولها وعرضها ومرها، وأنهى دراسته التي حفلت بعشرات القصص عن " إنسانية نادرة" تفتقت عنه.. ونثرها على قلوب كثيرة أحرقها غيابه...

في تلك الايام... كان قد أعد نفسه جيدا...ربما " لفرحه الأول" في حياته، وتمنى يوما يرى فيه سعادة تطير من عيني شقيقته الوحيدة... استعد جيدا لحفل التخرج..." حجز الروب الأسود"..ولأول مرة كان يفكر بارتداء " بدلة وربطة عنق" لاستكمال أناقة فرحه...

وبين الحادي والثلاثين من تموز... حين بدأ غيابه... والعشرين من آب " موعد حفل تخرجه"... لا فاصل زمني يذكر في كتب الانتظار سوى " موت" داهمه فجأة، على رأس صاروخ لم يخطئ هدفه.. وكان كفيلا أن يدمر حلم الفرحة الأولى، وترك " روب تخرجه وحيدا" على كرسي وحيد في احتفال ضج بالحزن والبكاء...

وفي أول حفل تخرج تقيمه جامعة النجاح بعد غياب أكثر من عام ونصف حدادا على طلاب كثر سقطوا بالرصاص والصواريخ وغيرها...غنّت جوقة الجامعة على غير عادتها ذاك اليوم " نشيد الموتى":

" عودوا...

يا أحبابي الموتى عودوا...

عودوا أنّى كنتم...غرباء كما أنتم...فقراء كما أنتم ..

يا أحبابي الموتى عودوا ...حتى لو كنتم قد متم...".

 

واختنقت التعابير كثيرا اثر هذه الكلمات...

 

  في استذكار تلك الأيام أيضا... حاول محمد استباق شيئا ما... استجمع الكثير من الجهد والقليل من المال، ليبدأ في بناء بيت، لأجل زوجة وأطفال لطالما تدرب كثيرا على حبهم... وفاض به الشوق اليهم..

وفي غير مرة كان يطير إلى أي زائر صغير لمكتبه، يحمله ويلاطفه، ويحنو عليه...وكان هذا الرجل " مشروع أب مستحيل الجمال والتكامل.."...كما استحال حدوث هذا لاحقا..!!

بعد الواحدة وخمسة واربعون دقيقة تماما من ظهر الحادي والثلاثين من تموز ذاك الصيف... انتهى كل هذا... أحلام وآمال عراض... ورجل بكامل روحه المفتوحة للحياة... قالوا أنه تحول الى جسد ممزق ومحترق... لكن ظل وجهه بحزنه وحنانه سليما بعض الشيء...

بعد خمسة أعوام... نكتب عن رجل مثل محمد... استنهاضا لحزن لم يتوقف ربما... ويسأل سائل.. من هذا الذي حاز كل هذا النور في غيابه وحضوره سواء...؟

نقول: " كان اسمه...

 لا تذكروا اسمه! خلوه في قلوبنا... لا تدعوا الكلمة تضيع في الهواء،

 كالرماد...

 خلوه جرحا راعفا... لا يعرف الضماد

طريقه إليه..".

 

تم طباعة هذا المقال من موقع مدينة نابلس الالكترونية: واجهة نابلس الحضارية على شبكة الانترنت (nablus-city.net)

© جميع الحقوق محفوظة

(طباعة)