واذا الموؤودة ُسئلت
عدد القراءات: 1965

 

 

بقلم: واحد من هالبلد

 

بينما كنت سائراً في دوار المدينة، شاهدت فتاةً تنتقل من رصيف لاخر هاربة من نظرات عيون مجموعة قذرة من الشبان، نظرت اليهم اعتقاداً مني انهم سيأبهون لوجودي، لكنني لم أثر اهتمامهم، بل لم ُيعرني أياً منهم إنتباهه، كأنني لم اكن موجوداً، تساءلت حينها، يا إلهي، هل هؤلاء بشر مثلنا! لاحقت عيونهم الشرهة ومفرداتهم القذرة وحركات السنتهم الوسخة لاحقت الفتاة من شارع لاخر، ُترى هل يستطيع أحد ان يلوم احدى الفتيات التي قالت لي انها تتمنى الموت لهؤلاء الشبان لانهم يحولون حياتها الى جحيم في رحلتها اليومية من المنزل الى الجامعة، تقول احداهن انها لا تستطيع ان تدفع يومياً مصاريف التكسيات المباشرة من والى الجامعة، فتضطر لاستعمال الباصات العامة والانتظار في مكان تجمع السيارات والباصات حيث يتكدس عشرات الشبان العاطلين عن العمل، لقد بادر بعض هؤلاء الشبان الى المشي بمحاذات الفتاة الى درجة لم يبق له سوى الالتصاق بجسدها، ناهيك عن مشهد الشبان المقزز وهم يجلسون على ادراج الأبنية لمعاكسة الفتيات الراغبات بزيارة الاطباء والمؤسسات حيث يتم تسميعهن الكلام البذيء وهن يستعملن السلالم او المصاعد، سمعت صوت احد الشبان الساقطين يذكر بأعلى صوته رقم جواله على مسمع من فتاة تسير امامه. ما هذا الانهيار الشامل للأخلاق! رحم الله شوقي حين قال: إنما الامم الاخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت اخلاقهم ذهبوا.

 

يقوم هؤلاء الشبان دون وعي بممارسة الارهاب الفكري المتمثل بالتضييق على حرية الحركة للفتاة غير المحجبة وإجبارها على التخلص من هذه التضييقات بالاستعانة بالحجاب الذي سيساعدها على التخلص من الالفاظ النابية وتسميع الحكي، لا عن قناعه ولا عن تدين، الامر الذي يسيء للمفهوم الديني والعقائدي، ترى معظم فتياتنا يرتدين الحجاب، ولكن هل تمارسن التدين! سؤال يحتاج الى دراسة. من عاداتنا تحميل مسؤولية خطايانا للاحتلال، لكننا نتحمل وتتحمل ثقافتنا مسؤولية هذا الانهيار الفاضح للاخلاق. إن مشهد الشبان المتسكعين وسط المدينة وملاحقتهم لكل فتاة تسير هناك يشبه مشهد دجاجة وقعت في حظيرة للكلاب. وكم سمعنا في شوارعنا الشبان يعدون خلف الفتيات بالفاظ يندى لها الجبين.

 

فتياتنا لا يرغبن بالسير مشياً في المدينة، بل يفضلن الانتقال من مكان لآخر بالسيارات مع رغبتهن بالمشي في الشوارع بحرية، لكنهن ممنوعات من التمتع بهذه الحرية رغم رغبتهن بالاستمتاع بمتعة السير في شوارع المدينة والتمتع بحقهن في الحياة. من حق كل انسان التمتع بحرية الحركة في وطنه، كيف لنا ان نلوم الاحتلال على فرض الحواجز بينما يقوم زعراننا بفرض حواجز في الطرق والمنعطفات لتسميع الفتيات كلاما بذيئاً! كيف يحق لنا مطالبة المرأة التي تشكل نصف المجتمع ان تحب وتعشق الوطن وتناضل من اجله إن كانت لا تذوق فيه الا المرارة!

 

كان العرب قديما يئدون البنات، لم يكن العرب يقومون بذلك كرها للبنات، بل حبا لهن وخوفاً عليهن، لقد كان احترام العرب للمرأة وحبهم لها كبيرا، لذلك لم يسمح كبرياء العربي له بإحتمال مشهد ابنته ُتهان او تنحرف او تقوم بشيء مما لا تسمح به الاعراف، لذلك كان يئدها وهو يبكي، لم يكن العربي وحشاً قاسياً يستلذ بقتل ابنته، بل كان يقوم بذلك بدافع خوفه على كرامته وحبه لإبنته التي يفضل رؤيتها ميتة على رؤيتها ذليلة جالبة للهوان له،

 

لقد قتل العرب قديما البنت ووأدوها واشتهرو بهذه الخطيئة عبر التاريخ، اعتقد ان الرجل العربي الذي كان يئد ابنته لم يكن سعيدا بهذا العمل، ولا اعتقد ان هناك كائنا مهما كان متوحشاً يجرؤ على وأد ابنته امام عينيه، لقد وأد سيدنا عمر بن الخطاب ابنته وهو يبكي بينما كانت تزيح التراب عن لحيته وهو يحفر لها قبرها، يا له من مشهد يثير القشعريرة، لم يكن الرجل العربي يئد ابنته الا من شدة حبه لها، لم يك يرغب برؤيتها تتعرض للذل والهوان وهو يقف عاجزاً عن الدفاع عنها ان تعرضت للأسر او تعرضت قبيلته لغارة، إذ اشتهر الاعراب في البادية بالاغارة على بعضهم بعضاَ وسرقة المتاع فيما يسمونه بالغنائم، والنساء من بين هذه الغنائم ، لذلك، وخوفاً على بناتهم، لجأ الأعراب بما عرف عنهم من بأس وشدة الا إزالة سبب الالم الذي قد يتعرضون له في حالة وقوعهم تحت الخطر. وبالتالي كان العربي يئد بنته من شدة خوفه عليها وحبه لها وليس بسبب احتقاره لها او كراهيته للمرأة. صحيح ان هذا العمل شائن، لكنه يحمل في احشائه مدلولاً هاماً يبين رغبة العربي في كسر ذراعه التي قد يمسكه منها عدوه، كما قال المثل "بمسكو من الايد اللي بتوجعو"، فكان العربي يقوم يخلع هذه الذراع من جذورها، صحيح ان هذا التصرف غبي وشائن ومرفوض لكنه يعكس ثقافة ما.

 

وما اشبه اليوم بالامس، نقوم الان بوأد بناتنا ولكن بشكل مختلف قليلاً، نحرم فيه البنات من حقهن في الحياة الطبيعية، نمارس فيه الاعتداء على حقوقهن في حرية الحركة داخل المدينة، وحقهم في الميراث، يقوم زعران المدينة بنصب فخاخهم في الشوارع ويعتدون على كرامة الفتاة وكرامة ابيها وشقيقها.

 

اننا نقوم بوأد فتياتنا في القرن الواحد  والعشرين، لقد عاشت المرأة العربية نهضة نسبية في القرن الماضي، تمتعت فيه المرأه بحرية نسبية، لكننا نقوم الآن بالضغط عليها أكثر فأكثر، نمارس كافة اشكال القمع من اجل اعادتها الى المنزل، نقوم بقتل حقيقي لروح هذه المرأة التي شاركت في ثورات التحرر في العالم العربي ابتداءاً من الثورة الجزائرية والمصرية والسورية وانتهاءاً بالمقاومة الوطنية في الجنوب اللبناني.

 

مشيت في الكثير من المدن الاوروبية، سواء في ساعات النهار او الليل المتأخر، لم اشاهد شباناً يتسكعون في الطرقات بإنتظار فتاة للانقضاض عليها بسيل من الكلمات النابية، تتمتع الفتاة في الغرب بإحترام كبير لا تتمتع فيه الفتاة العربية في بلداننا التي تدعي التدين، لا يوجد من يمارس العنف اللفظي ضدهن في الشوارع الا نادراً، بل تعود الفتيات من جامعاتهن واعمالهن قبل منتصف الليل ويسرن في الطرقات دون خوف من اعتداءات الشبان، بينما لا تتمتع شوارعنا بالامان ليلا ولا نهاراً.

 

ومن المؤلم عدم قدرة الفتاة على التوقف في الشارع وخلع حذائها وضرب هذا الفتى على وجهه، بل ما يؤلم حقاً هو تحول المجتمع الى مجتمع لا مبالٍ، يكتفي المواطنون بالنظر الى هؤلاء الشبان الصيع دون ان يمنعوهم عن فسادهم، أذكر كيف كنا في حارتنا القديمة نقوم بمتابعة دخول كل غريب الى الحارة حتى نضمن خروجه منها دون النظر الى اي من شبابيكها او نسائها، وحين كان يقوم احدهم بتصرف لا اخلاقي، كانت تجتمع الحارة عليه ضرباً وشتماً، فلا يعود لمثل هذا السلوك مرة اخرى، ان من اهم الاسباب التي تشجع على استمرار ظاهرة معاكسة الفتيات في الشوارع هو عدم وجود آليات للردع والتوبيخ، لا يتلقى الشاب اي عقوبة على جريمته، بل ينظر اليه باقي الشبان في الشارع نظرات تقدير وتمجيد، اللهم الا من رحم ربي من كبار السن الذين يقولون: لا حول ولا قوة الا بالله، ثم يستمرون في طريقهم بعد البصق على الارض وتوجيه بعض الشتائم، ولكن بقلوبهم.

 

ايستطيع احد ان يتخيل منظر المدينة الذكورية التي نعيش فيها! من منا انتبة الى ان شوارعنا التي تكاد تخلو من النساء !انظروا بالله عليكم، اي منا يقبل ان تنزل اخته الى الاسواق! من يقبل ان يترك اخته وحدها في شارع مليء بالذئاب والكلاب الضالة! اشعر بالامن والطمأنينة على بناتنا لو ارسلناهم الى اي مدينة اوروبية اكثر من شعوري بالطمأنية عليهن في هذه المدينة الذكورية.

 

في المجتمع الذكوري، يسيطر الذكر على مقدرات الحياة ويمنع المرأة من تبوؤ مكانها، يحاول قدر استطاعته التنغيص عليها واعادتها للمنزل، ُترى، هل تخيل احد منا شعورة لو لبس يوماً  ملابس نسوية وتنكر وسار في الشارع، كم من الافاظ النابية سيسمع، من منا تساءل يوما عن الوضع النفسي للفتاة التي تصل منزلها او محاضرتها وقد تلقت قصفاً متواصلاً من الرشقات اللفظية طيلة طريقها من المنزل للجامعة! ما هو المزاج الذي ستكون به بعد سماع هذه الافاظ عن تفاصيل المهارات الجنسية التي يتقنها هذا الشاب الساقط او ذاك، لم يبق شيء ليقوم به هؤلاء الشبان سوى ممارسة الجنس في الشارع لاثبات فحولتهم، تراهم يلبسون السناسل ويشفطون بسياراتهم المسروقة ويصرخون على بعضهم كلما مرت فتاة، يصرخون كالكلاب الضالة، لماذا لم يقم احدهم بإمطار هؤلاء الفاسقين بسيل من الرصاص يريح المجتمع منهم! إن من يرغب بإقناع فتاةٍ بقوة شخصيته لا يستعمل هذا الوابل من الالفاظ القذرة، لم اسمع يوماً بفتاة أعجبت بشاب من الفاظة القذرة او معاكسته لها في الشارع.

 

ديننا دين الفضيلة، فلماذا نرى ابناء ديننا يمارسون اوسخ اشكال العنف اللفظي على بنات بلدهم، لقد آلمني مشهد المعاكسات القذرة بينما كنت اسير مع ضيوف اجانب يتقنون العربية وفوجئوا بكلمات نابية يوجهها شاب قذر لفتاة تسير في بالشارع. لماذا ننزعج حين يقوم جنود الاحتلال باستعمال الالفاظ النابية احيانا ضدنا بينما نمارس هذه الرذائل مع بعضنا بعضاً.

 

في مدينتنا، تتم متابعة حركة الانثى بأسلوب استخباري لا يمت للثقة بصلة، فهي مكلفة كل يوم بتقديم جدول لحركتها ومشاويرها ومحاضراتها، وفي حالة تم تأجيل محاضرة او الغائها، يجب عليها الإتصال بوالدتها لإخبارها بالتعديلات التي طرأت على برنامجها اليومي، إن هذا الاسلوب في الرقابة والتخوين يزيد من قلة الثقة ويضعف الشخصية ويحمّل البنت اكثر من قدرتها، بل يمسح شخصيتها ويحولها الى متهمة يجب عليها ان تثبت براءتها كل يوم من تهم لا علاقة لها بها، فالمعاكسات في الشارع يتم ممارستها من قبل الشباب الصايع ولا دخل للفتاة في ذلك، يجب علينا تأديب هؤلاء الشبان وتربيتهم وتهذيبهم، لماذا لا نقوم بتلقين بعضهم درسا لن ينسوه وبذلك يتوقفون عن ممارسة ارهابهم بحق البنات!

 

تنشط المؤسسات غير الحكومية في الوطن بتنظيم الفعاليات والمؤتمرات والمهرجانات الخاصة بتفعيل دور المرأة في المجتمع وتشجيعها على المشاركة السياسية والترشح للانتخابات، بذلت هذه المؤسسات جهوداً طائلة، وأنفقت الدول الغربية ملايين الدولارات لتشجيع هذه المشاريع العاملة على تحفيز المرأة على دخول المجالس التشريعية وغيرها من المؤسسات السياسية، أصبح من حق المرأة الدخول الى كافة المحافل الوطنية والسياسية والاجتماعية والدولية ولكنها لا زالت عاجزة عن الدخول الى وسط المدينة بإحترام، يجب ان نطالب هذه المؤسسات المانحة التي تقوم بدعم كل ما هو غير حيوي بضرورة اعادة ترتيب اولوياتها وازالة الغبار عن عيونها التي لا ترى الا ما ترغب المؤسسات المانحة برؤيته، يجب على مؤسساتنا النسوية النزول الى الشارع والتعرف على مستوى الانحطاط الذي لحق بالذوق العام، لماذا لا ارى الناشطات النسويات يتظاهرن وسط المدينة ضد الزعران الذين يروعون الفتيات في الشوارع ويرهبونهن بحركاتهم وربما باسلحتهم ايضا! متى سيتحرك المجتمع النسوي للمطالبة بحقوقه الحقيقية وليس بالحقوق التي يطلبها الممول او الجهة المانحة، متى ستندفع عشرات المؤسسات النسوية الموجودة في المدينة للتصرف بشدة ضد كل من يعتدي لفظياً على الفتيات والنساء في الشوارع! ان كل جهودكن هباء وعبث طالما لم تنزلن للشارع، لن يغفر لكن التاريخ هذا التقاعس عن التحرك لما فيه مصلحة المرأة والوطن، ولن يكتب عنكن التاريخ كلمات من نور، فقد اكتفيتن بعمل ما طلبه منكم ممولوكن، وتقاعستن عن تنفيذ ما يجب عليكن عمله. استغرب منكن، كيف تجرؤن على النظر في عيون النساء المقهورات وانتن تتربعون على عروش مؤسساتكن وكأنكن من كوكب آخر.

 

 يستمر النمط السلوكي الابوي من جيل الى جيل، بل يقوم الطفل الذي لم يبلغ من العمر سن الرشد بممارسة العنف اللفظي والارهاب الفكري بحق شقيقاته، كيف لا وقد استمد هذا الجبروت من المجتمع والاب والاشقاء الكبار، تراه يمنع شقيقته من الاستماع للموسيقى ويفرض عليها حصاراً دائما، وتراه يتدخل في لباسها والعطر الذي تستعمله والاغنية التي تستمع اليها، بل يقوم بالتدخل في خروجها من المنزل والعودة اليه، كما لا يغيب عن باله العبث بمتعلقاتها الشخصية وعمل كل ما من شأنه ممارسة كافة اشكال العمل البوليسي للتضييق عليها، وبذلك تصبح حياة الفتاة التي بلغت سن الزواج في مجتمعاتنا العربية حياة مقرفة متعبة مرهقة، تبحث فيها الفتاة عن مخلص لها من هذا العذاب، فيأتي شاب لا يتناسب مع طموحات الفتاة وثقافتها وأحلامها واهتماماتها في الحياة، لكنها توافق عليه رغماً عنها، ولا اقصد هنا بكلمة رغماً عنها ذلك الاجبار الذي يفرض بالقوة، بل اقصد الالتفاف على القانون الذي فرضته الشريعة الاسلامية السمحة التي تفرض على اهل الفتاة ترك الامر لها في اتخاذ القرار، فتأخذ الاسرة اجراءاتها لدفع الفتاة لاتخاذ القرار الذي ترغب به الاسرة وبشكل ديمقراطي زائف، حيث توافق الفتاة على العريس كنتيجة حتمية بسبب الضغوط الممارسة عليها طيلة فترة مراهقتها، وبذلك تنتقل الفتاة من قهر الى قهر، ومن قيود الى اخرى، ومن عذاب الى عذاب.

 

القيود والحرية مسألة نسبية تتناسب مع ثقافة وقوة شخصية الفتاة، ولا ُيعقل ان ُتمنح فتاة قسطا كبيرا من الحرية في الوقت الذي تتصف فيه ثقافتها وشخصيتها بالضعف، يمكن تزويد الفتاة  بالحرية والديمقراطية بما يتناسب مع قدرتها على هضم هذه الامور وتكييفها مع مجتمعها وثقافته واحتياجاته وتقاليده، ولا يجوز لنا المبالغة في هذه الديمقراطية اذ اننا لا زلنا نحبو كي نتفهم وندرب انفسنا عليها.

 

يتقمص الشاب، وبشكل لا شعوري، شخصية شبان الشوارع وهو ينظر الى اخته تعد نفسها للخروج من المنزل، فيتذكر ماذا يفعل هو ذاته في الشارع، انه يقوم بملاحقة الفتاة وتوجيه الالفاظ النابية والغزلية لها، من رأسها الى اصابع قدميها، يتذكر الشاب، وبشكل لا شعوري، كل الحركات والالفاظ التي يمارسها شخصيا او يمارسها اصدقاؤه ضد الفتيات اللواتي يسرن في الشارع او يذهبن للجامعة او المدرسة، فتراة يتصرف لابعاد اخته عن هذه المواقف، إنه يعرف في قرارة نفسه مستوى انحطاط اصدقائه او الشبان الصيع في الشوارع، فيلجأ لابعادها عن هذه الشرور، يقوم لا شعوريا برفض المقارنة بين اخته وغيرها من البنات، لشقيقته قداسة خاصة، انه يرغب بابعادها عن كل شيء حتى يضمن عدم تعرضها لسوء، فها هو يبذل جهده لابقائها في المنزل، لا لشيء الا لرغبته بالشعور بالامان.

 

تقضي الفتاة معظم عمرها في المنزل، لو حسبنا المعدل السنوي للوقت الذي تقضيه في المنزل لتبين لنا ان ما لا يقل عن عشرات السنوات من العمر يتم قضاؤها في المنزل، ولكن فتيات اخريات خرجن من الكهف وتعرفن على الحياة العملية ومتعتها، تعرفن على العالم بما فيه من خير وشر وما فيه من تحديات، ان الفتاة التي تمكنت من الالتحاق بسوق العمل تفضل العذاب اليومي على البقاء في المنزل، تراها تفضل السير عبر حواجز الاحتلال والتنقل بين المدن بصعوبة لانها تؤمن ان مكوثها في المنزل سيؤدي بها الى الجهل والانغلاق والانكفاء على الامور الكلاسيكية القديمة التي لا ترتقي بالفكر الانساني ولا يتقدم بموجبها الانسان الى الامام قيد انملة.

 

لقد اثبت ا لتجارب ان تربية الاطفال في مدارس مختلطة منذ بدء وعيهم على الحياة ينتج شخصيات سوية واكثر انفتاحاً ووعياً واحتراماً للجنس الاخر، بل أن الفصل الحاد بين الجنسين ينتج جيلاً لا يعرف شيئاً عن الجنس الآخر باستثناء ما يراه من شكل وجسد، فتقتصر هذه العلاقة على علاقة الجسد، لقد أنجزت العديد من المجتمعات خطوات هامة في سبيل توعية الأطفال والشبان بأهمية تفهم الجنس الاخر واستيعابه مما ساعد على خلق علاقات اكثر انسجاماً واحتراماً، وليس أدل على بطلان وجهة النظر القائلة بالفصل بين الجنسين سوى منظر الجياع من الشبان في الشوارع وهم ينتظرون مرور فتاة لالتهامها والانقضاض عليها كالكلاب المسعورة، في حين لا تعاني الفتاة مما يشبه هذه السلوكيات المرضية في المجتمعات التي خطت خطوات اكبر في التربية الاجتماعية والسلوكية والمدرسية القائمة على احترام الجنس الآخر.

 

ولو نظرنا الى اساليب التفريغ الانفعالي التي يستعين بها الشبان والفتيات في المجتمعات الشرقية التي لا تشجع على الاختلاط، لوجدنا غرف المحادثة الالكترونية يتم استعمالها بشكل كبير، ربما بشكل اكبر مما هو لدى غيرنا من الامم، اننا نستعمل غرف المحادثة بنسبة تفوق تلك التي يستعملها  نفس مخترعي ومطوري هذه التكنولوجية، نادراً ما تحدثت لاجنبي عن غرف المحادثة وأعرب عن استعماله لغرف المحادثة بشكل يومي كما نفعل نحن. يستعمل مراهقونا الصغار والكبار هذه الغرف للتفريغ الانفعالي والتعرف على الجنس الآخر، تراهم يسألون أسئلة مقززة ومثيرة للغثيان، أسئلة تعكس جهلأ مطبقاً في شؤون الجنس الآخر، وتقتصر هذه العلاقة الالكترونية على الشؤون النسوية او الشبابية في الكثير من الاحيان مما يعكس وجود ثورة وتمرد داخلي في داخل كل جيل على قيم المجتمع السائدة، لقد ساهمت ثورة التكنولوجيا والاتصالات بتشجيع هذه الثورة الجنسية ولكنها قامت ايضاً بتعميق الفجوة والانفصام بين ما نؤمن به وما نقوم بعمله، بحيث تتعارض قيمنا بشكل واضح مع ما يقوم بعمله شباننا في غرف المحادثة ولكنهم في نفس الوقت يستمتعون بالقيام بذلك، هذه الفصامية تسير نحو التمأزق ولا بد لها من حل جذري، نحن لا نقوم بحل الامور بل بطبطبتها مما سيؤدي الى انفجارها في اي وقت، فنحن نرقد على برميل من البارود لا بد ان ينفجر في اي لحظة.

 

إن عدم وجود الامكانيات للتعارف بين الجنسين يؤدي بهم للبحث عن وسائل ملتوية للتعارف، فلماذا لا يكون هذا التعارف باشراف المسؤولين ضمن برامج اكاديمية منظمة، لقد اثبتت التجربة ان الفتاة التي تلتحق ببرامج اجتماعية وثقافية هي اقدر على التواصل الصحي مع الجنس الآخر، كذلك الامر بالنسبة للشاب، فلماذا لا تكون هناك برامج تشرف عليها الوزارات لتعميق ثقافة كلا الجنسين بالشؤون المتعلقة بالجنس الآخر! ان هذه الامور لا تبدو منطقية في الظروف الحالية لكنها ملحة، وطالما قمنا بغض النظر عنها فاننا لا نحلها بل نتهرب منها، والا لماذا نرى ابناء العديد من الامهات الملتزمات بالتقاليد والاعراف ينحرفن احياناً، إن كثرة الضغط وعدم التفهم للاحتياجات الانسانية تؤدي الى هذه النتائج.

 

 

***

 

نابلس، 18/8/2006

تم طباعة هذا المقال من موقع مدينة نابلس الالكترونية: واجهة نابلس الحضارية على شبكة الانترنت (nablus-city.net)

© جميع الحقوق محفوظة

(طباعة)