عيادات من القلة
عدد القراءات: 9711

بقلم: علاء ابو ضهير

كرسي بلاستيكي، كرسي ُمنجد تنجيداً قديماً، كرسي آخر مهترىء يعود الى حقبة الخمسينات من القرن الماضي، مقعد خشبي مشابه لأولئك المقاعد الموجودة في المقاهي الشعبية. هذا هو حال غرفة الانتظار في عيادات عدد كبير من أطباء مدينتنا، جدران لم يتم طلاؤها منذ سنوات طويلة، بعضها يتساقط دهانه، وبعضها لم يبق منه الكثير على الحائط. تعتبر بعض عيادات أطباء مدينتنا متحفاً لمحبي الآثار والانتيكا من كنبايات وبوفيهات من عصر الخديوي توفيق، وطاولات مصفحة قديمة ثقيلة جدا قديمة قدم البناء الذي تشققت جدرانه.

توجد في غرفة الانتظار بعض المجلات التي تتحدث عن حفلة فريد الاطرش الاخيرة (الربيع) وآخر أغاني سميرة توفيق ومقابلة فنية مع المطربة وردة الجزائرية بمناسبة صدور أغنيتها الجديدة (في يوم وليلة)، وصور حفل زفاف محمود يس وأول دور بطولة للفنان الصاعد نور الشريف.

بعض عيادات الاطباء لها مصاعد كهربائية، لكنها غير مؤهلة للاستعمال البشري، أعجبتني كلمات علقها أحدهم على باب المصعد، ُكتب عليه: المصعد يعمل، لكننا غير مسؤولين إذا تعطل، صعدت ثلاثة طوابق وانا امسك يد والدتي حتى وصلنا عيادة الطبيب، لا يستثمر الاطباء شيئاً في سبيل خدمة المريض، ولماذا يستثمرون طالما كانت المنافسة شبه معدومة ولا يوجد بديل لهؤلاء المرضى!

أما الدرج، فبعض الدرجات مكسورة وقد يقع المريض أثناء صعودة اونزوله عن الدرج إذا لم يكن مرافقاً من قبل احد اقاربه خاصة وأن الإنارة غير متوفرة ليلاً، الدرجات مليئة بالنفايات وأعقاب السجائر، أما الجدران، فحدث ولا حرج عن معرض للشعارات الوطنية والعاطفية والجنسية، إحذرو العميل فلان، بالكيماوي يا صدام، وحشتني، ذكرى العاشق الولهان، بعيد عنك حياتي عذاب، انت عمري، يا طيب القلب وينك، وحديثاً اصبحنا نقرأ على تلك الجدران أرقام الجوال والبريد الالكتروني وبذلك اصبحت بعض هذه الجدران مواقع غير الكترونية للتشبيك والتعارف بين الجنسين. ناهيك عن اليافطة الحديدية الصدئة التي تم تركيبها على الدرج أو المبنى قبل عشرات السنوات.

في مدينتنا، لا يوجد تلفزيون في معظم عيادات الاطباء، ينتظر المريض ساعات دون وسيلة للتسلية ُتنسيه مرضه ولو مؤقتاً، لذا يبقى المريض أسيراً للتفكير في مرضه وضحية للقلق والخوف بإنتظار لقاء الطبيب، ولا داعي لذكر الحر في الصيف والبرد في الشتاء، إذ لا يوجد مكيف للتخفيف من حدة الحرارة أو مدفئة للحصول على بعض الدفء في الشتاء.

السكرتيرات في أغلب العيادات غير جميلات، لا يبتسمن حتى للرغيف الساخن، تقوم السكرتيرة بإعداد قهوتها دون أن تعرض على الجالسين فنجانا من القهوة، لماذا يتم التعامل مع المريض بإعتباره خرقة ثياب مجعلكة ملقاة على قارعة الطريق، أو ضيفاً غير مرغوب به، أو متسولاً جاء للحصول على الرعاية الطبية التي لا يستحقها، مسكين هذا المواطن الذي ُيقدم عمره وأبناءه وعمله قرباناً للوطن، ويتحمل كل ما لا يمكن تحمله في سبيل البقاء على أرضه، ولا يجود عليه الوطن بخدمة طبية لائقة.

يدخل المريض عيادة الطبيب الذي يعطي الاولوية للاستفسار عن التأمين الصحي، وكأن هذا السؤال سيحدد شكل التعامل مع المريض، ثم يبدأ الطبيب بفحص المريض ويسأله عن الدواء الذي تعاطاه قبل ستة أشهر أو عام، وبالطبع لا يستطيع المريض تذكر إسم الدواء، ثم يسأله عن حساسية هذا الدواء على معدته، فيحتار المريض ويدلي بإجابات غير دقيقة، ويجيب: لقد كانت حبة الدواء حمراء أو بنية اللون، لا اذكر بدقة. لماذا لا تقوم سكرتيرات الطبيب بإعداد قاعدة بيانات خاصة بالمرضى يتم فيها تغذية البرنامج بمعلومات كافية حول صحة كل مريض وما تعاطاه من دواء بالاضافة الى حساسية هذا المريض تجاه بعض الادوية أو وجود أمراض مزمنة لديه وغيرها من المعطيات المفيدة! وبذلك يصبح لدينا أرشيفاً موثقاً لحالة كل مريض تعفينا من التخمين، بحيث تقوم السكرتيرة بطباعة تقرير لأرشيف صحة المريض طيلة الفترة الماضية وتقوم بتسليمه للطبيب الذي يطلع عليه فور دخول المريض، بحيث يعطي هذا الارشيف صورة عن المتاعب الصحية التي مر ويمر بها هذا المريض.

يحصل الطبيب على رسوم تعادل العشرة دنانير من كل مريض ويزوره في اليوم عشرات المرضى والمراجعين بالاضافة الى دوامه في المستشفيات الخاصة والعامة، يتلقى الطبيب دخلاً قد يكون من أعلى معدلات الدخل في الوطن، يعمل أيضاً في تجارة العقارات والأراضي ومختلف أشكال الاستثمار، لكنه يبخل على مرضاه بعيادة لائقة، إن الكثير وليس جميع العيادات الطبية الموجودة في المدينة لا ترتقي الى المستوى الصحي المطلوب، كيف تكون العيادات الطبية غير صحية! تكفي زيارة قصيرة لأي من المرافق الصحية لهذه العيادات (الحمامات) حتى نتأكد من عدم مطابقة هذه العيادات لشروط الحد الادنى من الصحة.

المفارقة في هذا الامر هي أن هذه العيادات خاصة وليست عامة، أي لا يوجد ما يمنع الطبيب من صيانتها وصيانة مدخلها ومرافقها الصحية، ولا توجد بيروقراطية تعيق إتخاذ قرار إستراتيجي كهذا القرار، وطالما ننظر للشكل في معرض حديثنا هنا، فإننا نرى هذا الطبيب أو ذاك يركب أجمل السيارات ويملك أجمل المنازل، في حين أن عيادته لا تليق لحمل إسم عيادة بل هي أقرب الى الدكان منها الى العيادة.

لا ينطبق هذا القول على جميع عيادات الاطباء في مدينة نابلس، إذ توجد عيادات تتمتع بالجودة العالية التي تنافس مثيلاتها في أي من بلدان العالم المتطور، في هذه العيادات يشعر المريض بأنه محترم من قبل الطبيب وذلك لما يحصل عليه من معاملة تليق بكرامتة كإنسان.

أهمس هذه الهمسة في أذن المسؤولين لعلهم يتخذون قراراً بفرض صيانة دورية للعيادات ومداخل الابنية، لا يحق للاطباء النظر للامور على إعتبار أن المريض محتاج للطبيب حاجة ماسة وبالتالي لا مفر سوى الصبر والذهاب الى عيادة الطبيب بغض النظر عن نظافتها، إن تجاهل الاطباء لهذا الأمر يعود على صورتهم بالضرر، ما قيمة أن يتحدث الطبيب لمريضه عن ضرورة غسل اليدين بعناية والابتعاد عن الجراثيم وتعقيم الاطعمة وهو يرى أن عيادة الطبيب دليل انفصام شخصيته التي لا توائم بين ما يتم الحديث عنه وما يتم تطبيقه، فعدم نظافة عيادة الطبيب دليل على إنفصام شخصيته.

إن قيام البلدية ووزارة الصحة بإصدار قرار يلزم هؤلاء الاطباء بصيانة عياداتهم خلال سنة سيوفر مئات فرص العمل للشباب العاطلين عن العمل، لماذا يستمر هذا الظلم الاجتماعي الذي يسمح لهذا الطبيب بإمتلاك أموال طائلة دون وجود نظام ضريبي عادل يأخذ جزءً من المال من الذين في أموالهم حق معلوم لبقية أفراد المجتمع من العاطلين عن العمل، وما أكثرهم.

إن الشكل العام للعيادة يلعب دوراً في صناعة صورة الطبيب في ذهن المريض، ويعتبر هذا الأمر من أبجديات العلاقات العامة، الانسان مجرد صورة، لماذا لا تكون هذه الصورة جميلة تواكب ما لهذا الطبيب من خبرة كبيرة ومنافسة.

أذكر مرة ذهبت الى عيادة طبية في فرنسا، إنتظرت دوري قرابة الساعة في غرفة الانتظار المزودة بتلفزيون ومجلات منوعة ولوحات زيتية جميلة، كانت قاعة الانتظار مقسومة الى قسمين، قسم للبالغين وقسم للاطفال، تم تصميم غرفة الأطفال لتكون قاعة للالعاب، يجلس فيها الطفل دون ملل أو ضجر، كيف نطلب من الطفل أن يصمت ويجلس كالرجال البالغين!

حين دخلت غرفة الطبيبة، وجدتها مبتسمة، إستقبلتني بحرارة ودون تجهم، تحدثت معي عن الطقس وأمور عامة أخرى، إنتقلت بعدها للفحص المفصل الذي إستمر قرابة الثلث ساعة وذلك لتتأكد من صحة تشخيصها لالتهاب اللوزتين الذي أصابني، أعطتني حقي من الفحص والاهتمام، لقد علمت هذه الطبيبة كيف تصنع لنفسها علاقات عامة.

وأخيراً، أيحق لنا أن نتساءل: هل تقمصت العيادات الخاصة نظام العمل المعمول به في العيادات الحكومية! ولماذا تطورت بعض المستوصفات شبه الحكومية لمستوى أرقى من مستوى العيادات الخاصة! الا يحق للمواطن الحصول على خدمة صحية تليق بمستوى تضحياته!

نابلس، 5/7/2009

تم طباعة هذا المقال من موقع مدينة نابلس الالكترونية: واجهة نابلس الحضارية على شبكة الانترنت (nablus-city.net)

© جميع الحقوق محفوظة

(طباعة)