كعادته كل خريف، يستيقظ والدي باكراً في أحد ايام الجمعة ويبدأ بإستدعائنا واحداً تلو الآخر لمساعدته في قطف ثمار الزيتون لنجتمع نحن الاربعة بالاضافة الى من يرافقنا من الاطفال ولضع سلماً طويلاً أمام المنزل ولنبدأ بتسلق شجرة الزيتون وقطف ثمارها، ويشاركنا في هذه الفعالية الموسمية كل سنة بعض الجيران الذين يأتون ليدلوا بدلوهم في شؤون الزيت والزيتون، بينما تتوقف عدة سيارات من السيارات المارة ليقوم سائقوها بتوجيه النصائح وإبداء وجهة نظرهم في شؤون القطف المبكر، يقول أحدهم: والله لو صبرتو شوي لكان أحسنلكم، كان بتقطفو حبة الزيتون كبيرة، ثم تأتي إحدى الجارات (أصلها قروي) لتقدم نصائح تتعلق برش الشجرة من أجل الحصول على موسم مثمر، ثم يأتي أحد الجيران ليقول لنا: انتبهو ان ضرب أغصان الزيتون بالعصا مؤلم للشجرة ولا يجوز ذلك، بينما يتقدم رجل عجوز متكئأ على عصاه ويحاول استنهاض المفردات بصعوبة قائلاً: كان الاحرى بكم ان تطلبوا من مديرية الزراعة مساعدتكم من أجل القضاء على الامراض التي تفتك بشجر الزيتون، وهكذا يستمر تدفق الفضوليين للمشاركة في هذه الفعالية على الطريقة النابلسية في التدخل في شؤون الغير.
وقفت مترنحاً وسط هذا الخضم من الفضوليين الذين يساهمون في جعل مهمتنا أكثر صعوبة، بينما يتبادل والدي معهم وجهات النظر ويجيب على أسئلتهم كمن يمكن وصفه بالناطق الرسمي بإسم مشروع قطف الشجرة، بينما أنهمك مع اخوتي في جمع حبات الزيتون المتساقطة من الاعلى إلى الارض، ويقوم أحدنا بإبعاد السيارات عن هذه الحبات التي قد تدوسها عجلات السيارات وقد يوقف حركة السير أحياناً لالتقاط حبة ذهبت بعيداً الى منتصف الشارع.
ولهذه الشجرة قصة قديمة، إذ حاول والدي منذ سكننا في هذا الحي المحاذي للبلدة القديمة من مدينة نابلس أن يزرع عدة أشجار مثمرة في بستان المنزل، وكان يقوم بتكريس كل يوم جمعة للعمل في هذا البستان، لكن هذه الجهود لم تتكلل بالنجاح لأسباب كثيرة، فإكتفى والدي بزراعة شجرة زيتون أمام المنزل على الشارع الرئيسي، حيث تمر السيارات الكبيرة والصغيرة بقربها، ثم قام والدي بدعم جذع هذه الشجرة ببناء جسر حديدي مصفح لحمايتها من أي سيارة متهورة، كان ولا زال شديد التعلق بها، يعزها معزته لأبنائه، فهو شديد الحرص على العناية بها وتنظيف الرصيف من حولها كل صباح وسقايتها وتهذيب أغصانها وتشكيل لجان من الاخصائيين الزراعيين الذين يسكنون في نفس الشارع لاستشارتهم في شؤون الشجرة كلما مرت بأزمة صحية او كلما أصابتها بعض الحشرات بمرض ما.
وحين داهم الاحتلال المدينة وأحتل الجنود منزلنا وأصبحنا لاجئين في منزل جيراننا وبينما كان الغزاة يعيثون خراباً في منزلنا، كان والدي يسترق النظر الى الشارع وينظر الى دبابات الاحتلال الثلاثة التي كانت تصطف أمام المنزل وبجانب الشجرةٍ ويقرأ القرآن ويدعو الله أن ُيبعد عنا الخطر، كان ينظر أيضاً الى شجرة الزيتون ويدعو الله أن يحميها من عبثهم ودباباتهم وقنابلهم ونيرانهم.
تصبب عرقي وأنا أجمع حبات الزيتون المتساقط من على الشجرة، كنت أنتظر اللحظة التي ُيعلن فيها أشقائي عدم وجود أي حبة زيتون أخرى على الشجرة لأعود الى منزلي وأرتاح من هذا العمل المضني، يا إلهي كم يعاني فلاحوا بلادي في قطف أشجار الزيتون لأسابيع متواصلة، لقد إنزعجت لإتساخ يداي ببعض الغبار الموجود على الزيتون لكنني تذكرت حينئذ المخاطر الحقيقية والدموية التي يعاني منها الفلاحون كل موسم أثناء قطفهم له، حيث يحيط بهم المستعمرون ويسرقون الزيتون أحياناً أو يحرقونه أحياناً أخرى، بل ُيفضل الغزاة مراقبة الفلاحين وإنتظارهم حتى ينتهوا من قطف الزيتون ليقوموا بعد ذلك بمنعهم من حمل أكياس الزيتون معهم، ويفرضون عليهم ترك الاكياس، تحت قوة السلاح في أماكنها ليقوموا إما بإحراقها او سرقتها وقد يقوم هؤلاء المستعمرون بإجتثاث آلاف أشجار الزيتون المثمرة في موسم قطف الثمار، يقومون بذلك دون أي إعتبار لمشاعر أصحاب هذه الأشجار التي ورثوها عن أجدادهم والتي إرتبطت بوعيهم الوطني والتاريخي والتراثي وأصبحت رمزاً حقيقاً من رموز الوطن كما كانت هذه الزيتونة وغصنها رمزاً للسلام بعد طوفان سيدنا نوح عليه السلام.
قد لا يتجاوز عدد حبات الزيتون التي قطفناها بضعة مئات من الحبات، وقد لا تكون جودتها كجودة الزيتون الموجود في الأسواق، لكن هذه الكيلو غرامات القليلة من الزيتون تتمتع بأهمية كبيرة لدى العائلة، إذ كانت والدتي تنتظر في المطبخ وصول الزيتون المقطوف لتقوم بوضعه في الاواني الخاصة به وإضافة الملح والليمون وغيره من اللوازم لتخليله وتحويله الى زيتون صالح للأكل ولتقوم لاحقاً بإرسال كمية ولو بسيطه منه الى شقيقاتها وشقيقات والدي في الاردن بالاضافة الى شقيقاتي وأنسبائهم، هذا الشعور المرافق للخلق الابداعي هو الشعور المرافق لقيام كل من والدي ووالدتي بالتمتع برؤية حبات الزيتون التي أثمرت في قطعة من الارض لا تتجاوز النصف متر لكنها كافية لتعزيز الثقة بالنفس والإعتقاد بالقدرة على الانتاج حتى ضمن أضيق الظروف، وعلى الرغم من عدم جديتي في مساعدتهم في هذه الأمور إلا أنني أدركت الآن البعد النفسي الذي يرافق هذه الشعائر والطقوس الموسمية السنوية، إنه الأمل بالحياة الذي يجمعهم حول هذه الشجرة التي غرسها والدي في زمن لم أتوقع فيه أن ُيبقي المحتلون على غرسة في أرضها او شجرة في مكانها، لكن والدي كان يقول هذا الصباح، لقد كبرت هذه الشجرة رغم أنوف الجنود وقد أصبحت قادرة على العطاء بعد سنوات من العناية، لم أتوقع أن أقطف ثمارها بل توقعت ان تقوموا أنتم بذلك، وذكّرنا بالقول القديم الذي تعلمناه في المدرسة: غرسوا فأكلنا ونغرس فيأكلون، لكنه تحدث بعدها عن أهمية تعميم فكرة الزراعة المنزلية في المدينة لما في ذلك من حماية للبيئة وتجميل لمنظر الشوارع.
أشاهده كل عام وهو يتناول حبات الزيتون على طاولة الافطار مع والدتي، كان يستمتع بتناول الزيتون ويتلذذ بها لأنها من زراعته، ويتحدث لوالدتي التي تشاركه الرأي عن أهمية هذه الشجرة وقدرتها على العطاء في الموسم المقبل، وتذكرت عندئذ قول اليسوع قبل الفي عام: لا خير في أمة لا تأكل مما لا تزرع ولا تلبس مما لا تصنع.
نابلس/ 16 أيلول 2005
|
||||
|