الكاتبة: لارا كنعان - المقال الأصلي منقول من موقع فلسطين ألترا
للمدينة مذاق خاص حين تُروى في جلسات تجمع بين جيلين من النساء. ويزداد المذاق حلاوة إن كانت العادات والتقاليد هي سيدة المقام فيها، وهي التي جمعتني مع أولئك النسوة اللواتي أثرن في نفسي مشاعر مختلطة. المكان مدينة نابلس بقمة بهائها في مساء تشرينيٍ يميل للبرودة، وهي تختزن تراثها بعاداته وتقاليده، وتحيط بنا في جلساتي الثلاث معهن.
أمّا الزمان فيتنقل بخفة ما بين وقتين: الماضي؛ هذا الزمن الجميل الذي جعل عيونهن يلمعن فرحًا وهُنَّ يسردن مشاعرهن بكامل شغف صباهن، والحاضر الذي غاب عنّي وأنا أعيش الحكايا التي أحكمن سردها بموهبةٍ فطريةٍ جعلتني لا أنتبه في أيِّ الأزمنة أنا الآن، أو في أيِّ الأمكنة أتواجد.
عادة تلاشت
الحاجة أم العبد العبوة حدثتني، وهي تعتذر لي عن تناولها لعشاءٍ خفيفٍ أحضروه لها على صينية قش ملونة بنقشات تراثية لتتناول دواءها: الاستقبال؛ هو عادة نابلسية تلاشت الآن تحت وطأة عادات حديثة انتشرت في المجتمع النابلسي مؤخّرًا، وكان يشكل متنفسًا كبيرًا للسيدات؛ بالإضافة لكونه ممارسة اجتماعية يمكن من خلالها قياس المستوى الاجتماعي للسيِّدة صاحبة الاستقبال، بناءً على ما يتم تقديمه للضيوف.
والاستقبال هو تحديد يوم في الشهر يصبح خاصًا بها، تستضيف فيه سيدة من سيدات المدينة جاراتها وصديقاتها، وتقدم به الشاي والقهوة والحلويات كـ "الغريبة"، والشوكلاته، والملبس، والمكسرات، بالإضافة إلى النارجيلة "الأرجيلة" التي كانت تعد مسبقًا. ففي اليوم السابق كانت تحضر رؤوس "التنباك" وتوضع في الثلاجة استعدادًا ليوم الاستقبال؛ ليتم وضعها على طاولات خاصة أمام المدعوات ليخترن منها.
استقبالات عالقة في الذاكرة
الحاجة أم العبد، القادمة من طبريا في صغرها بعد زواجها، استُقبلت في نابلس استقبالًا كبيرًا ظلّ في ذاكرتها، إذ امتد لسبعة أيام متواصلة، جلست فيه على "لوج" (مكان يخصص في العادة لجلوس العروسين) أُعد ليكون مكانًا لها طيلة الاحتفال بها. قالت: كانت حماتي تأخذني معها إلى جميع الاستقبالات التي كانت تذهب إليها، فـ "الكنة" في عرف تلك الأيام يجب أن ترافق حماتها وتلازمها في جميع زياراتها، هذا ما دعت إليه العادات والتقاليد ويتم الالتزام به.
الحاجة أم عمار الجد، وكغيرها من الحاجات اللواتي التقيتهن وبعد سؤالي لهن عن "الاستقبال"، ابتسمت وقالت: "كان استقبالي في اليوم التاسع عشر من كل شهر"، مضيفة، أن الاستقبال كان يمثل ترابطًا اجتماعيًا بين الجارات والصديقات؛ فالمحبة والوُدّ كانا كبيرين في الماضي.
"كانت النساء يساعدن في ترتيب المنزل وتنظيفه قبل وبعد الاستقبال، ليعود كما كان قبله، وكانت أيام استقبال الجارات والصديقات تشمل الشهر بأكمله، الأمر الذي يجعل النساء في انشغال دائم طيلة الشهر، ويزيد من قوة العلاقات الاجتماعية فيما بينهن"، وتستشهد بالمثل النابلسي القديم "نام يا جاري بخير لأنام أنا واياك".
وقالت الحاجة أم عمار، إن الاستقبال إضافة لما يتم فيه من تبادل الأحاديث حول أحوال الناس وما يستجد من أحداث في المدينة ذلك اليوم، فقد كان مصدراً للأخبار العامة والخاصة، كما هو مصدر مهم للإشاعات التي كانت النساء تتداولها فيما بينهن وفي بيوتهن، إضافة لكونه مصدر ترفيه من خلال الرقص الذي كانت تمارسه النسوة فيه.
الحاجة أم غازي سقف الحيط، التي كانت تستقبل ضيوفها في الخميس من بداية كل شهر، قالت إن الإبلاغ عن وجود الضيوف حتى خارج موعد الاستقبال، وفي غياب وسائل الاتصال الهاتفي في ذلك الوقت، كان يتم إمّا من خلال الاتصال الشفوي ما بين الجارات اللواتي كن يقمن بإبلاغ بعضهن بوجود الضيوف، ويدعين بعضهن للقدوم للمشاركة، وإمّا من خلال إرسال الأطفال لبيوت الجارات وإبلاغهن، أو من خلال رمز متفق عليه فيما بينهن كوضع "بشكير أحمر" على الشبابيك المطلة على الحارة، لتسهل رؤيته من قبل الجارات اللواتي كن يرغبن بالمشاركة والقدوم.
فنٌ وموسيقى!
وحسب ما قالته الحاجة أم غازي أيضًا، وفي إضافة مهمة لها من الدلالات الشيء الكثير، فإن النابلسيات كُنّ ومن خلال الاستقبال يمارسن الفن لإشباع حبهن له، والذي كان يندر أن يحصلن عليه خارج إطار الاستقبال. فخلاله كانت النساء تعزفن على آلة العود التي كنَ يتعلمن العزف عليها عند معلمات موسيقى متخصصات، مثل زهوة الغزاوي التي أعطت الحاجة أم غازي دروسًا في العزف عليها بناء على السلم الموسيقي والنوتات.
وتم تحديد هذه الدروس لمدة ساعة ونصف مقسمة على أيام الأسبوع، لإتاحة المجال أمام السيدات اللواتي أردن تعلم العزف. كما كانت النسوة يتعلمن "دوزنة" العود وتهيئته للعزف، من خلال تعديل أوتاره وتحسين عزفها ليكون أكثر قدرة على الأداء الصحيح خلال احتفالاتهن.
والتعلم على آلة العود اقتصر على العائلات الميسورة، والراقية في نابلس، (المغنيات الشعبيات كُنّ لا يستخدمن العود في عزفهن في الأفراح والحفلات، وآلاتهن كانت تقتصر على الدف والطبل والنقرزان).
وكانت هذه العائلات تشتري آلة العود، من "ضياء" والد زهوة الغزاوي، الذي كان يحضرها من سوريا، و تحتفظ بها في بيتها لاستخدامها وقت الحاجة في الحفلات، ومن كانت غير قادرة على شراء هذه الآلة كانت تستأجرها من محلات خاصة بهذه الآلات الموسيقية.
كما عزفت هي ذاتها على العود في يوم عرسها على وقع أغنية "حوّل يا غنام حوّل حوّل يا غنام". "كما كنا -تقول الحاجة أم غازي- نتعلم الأغاني من بعضنا البعض. بل ووصل بنا الأمر أن قُمنا بتأليف بعض الأغاني التي كانت تتكلم عن مدينة نابلس، كما في أغنية نابلس التي تم تأليفها على لحن قدود حلبية":
مرمر زماني يا زماني مرمر قلبي متولع في هالحلو الأسمر
مرمر زماني يا زماني مرمر ضاعت بلادي والقلب يتحسر
نابلس أبية لا تطيق العار أوروبا سمتها جبال النار
كفاك فخراً شعبك الجبار هذي بداية والمخبا أعظم
وفي إجابتها على سؤال "ألترا فلسطين" حول طبيعة اللباس في استقبالات النساء في ذلك الوقت، أجابت الحاجة أم غازي: "كانت النساء في نابلس في منتصف القرن العشرين يخرجن بالشوشة بلا حجاب (أي كاشفات عن شعرهن)، وبالتنانير القصيرة، واستمر هذا حتى منتصف السبيعينيات من القرن العشرين. حيث بدأ ارتداء الحجاب يزداد بعد هذا الوقت".
وتابعت، "كما كانت بعض النسوة من كبار السن أو من المتدينات، يضعن الغطوة (غطاء الوجه) لتغطي وجوههن، وكن يرتدين الحبرة (تنورة سوداء)، والبونية (طاقية سوداء)، فوقها منديل على طبقتين (جورجيت أسود)، وكُن يسدلنه على وجوههن حين يلتقين بالرجال".
الاستقبالات كظاهرة اجتماعية حافظت على نفسها طيلة فترات طويلة داخل المجتمع النسوي النابلسي. في بداية الثمانينات من القرن العشرين ومع ظهور الهاتف، ووسائل الاتصال الحديثة بدأت تتراجع أهميتها، وتتحول إلى أشكال ومسميات أخرى "كالصُبْحية، والجَمْعة، والقَعْدة"، في محاولة لاسترجاع شكل ما للاستقبال، في زمن أصبحت العلاقات الاجتماعية، بمعظمها، مقتصرة على وسائل التواصل الاجتماعي.
رابط المصدر الأصلي: اضغط هنا
مقابلة السيدة عريب العزيزي على راديو طريق المحبة: http://tmfm.net/article/57273