بكلمات أبكت المستمعين لها من الصحفيين وممثلي المؤسسات الطبية والقانونية وأسرة جامعة النجاح الوطنية التي ينتمي لها الشهيد تحدثت زوجته أم عمرو راوية تفاصيل الألم الذي عايشته أسرتها الثلاثاء السوداء التي فقدت قبل بزوغ فجرها زوجها الدكتور خالد صلاح.
افتتحت أم عمرو الحديث بذكر الآية :" ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات" وبدأت تصف حياة زوجها قائلة :" كان عبقريا من أوائل الحاصلين على شهادات الدكتوراه في العلوم التكنولوجية وهو أول من ادخل علوم الحاسوب المتطورة إلى مدينة نابلس.
حصل الدكتور الشهيد خالد صلاح على عروض مغرية للعمل في الخارج سواء في العالم العربي أو في الدول الأجنبية رفضها جميعا وأصرّ أن يقدم خبراته وعلومه ثروة لفلسطين وشعبها كما تقول زوجته.
تفاصيل ما جرى
وتسرد أم عمرو حكاية ليلة الشهادة قائلة:" كنا نسهر خارج البيت وعدنا متأخرين من احتفال فرح، وعند الساعة الثانية عشرة ليلا سمعنا أصواتا غريبة خارج المنزل.
استطلع الدكتور الشهيد الأصوات فلم يجد شيئا خارج البيت، وما إن أصبحت الساعة 1:45 دقيقة فجرا حتى تكررت الأصوات، توجه الشهيد الأب لغرفة ابنته ديانا ذات ال(23عاما) فأخبرته أن المكان يعج بجنود الاحتلال.
حمل الشهيد ابنته بين يديه، وزحف بها إلى خارج غرفتها مع بقية الموجودين في المنزل إلى غرفة الضيوف ذات الجدران الثلاثة اتقاء لخطر الرصاص الذي راح يتلاعب بين جدران المنزل حيث تصف زوجة الشهيد أم عمرو ذلك بالقول :" كان الرصاص يدخل البيت من كل جانب ويتلاعب داخل غرفه من خلال النوافذ، انبطحنا جميعا في مكان آمن، تجمعنا قرب بعضنا نريد أن نموت جميعا أو نبقى مع الأحياء كذلك جميعا، إلى أن أضيء المنزل بفعل انفجار إحدى القذائف داخل المطبخ.
استشعر الدكتور الشهيد الخطورة التي تحف أسرته وتهدد حياة أطفاله، وبدأ أفراد الأسرة اتصالاتهم بالخارج، تذكروا انهم يحملون الجنسية الأمريكية فاتصلوا عبر النقال بعائلات أقاربهم لإبلاغ السفارة بما يجري ، واتصل أفراد العائلة ببعض الشخصيات والعائلات في الولايات المتحدة الأمريكية حيث يدرس (عمرو) نجل الدكتور الأكبر، لم يحرك احد ساكنا، السفارة الأمريكية في القدس أبلغت المتصلين أن عائلة الدكتور غير مسجلة ضمن المقيمين في الضفة الغربية رغم تأكيد زوجته أن للعائلة سجل لدى السفارة وأنها –السفارة- اتصلت بهم أيام حرب الخليج وطلبت منهم العودة لأمريكا لحمايتهم أو توفير كمامات واقية من الغازات.
بدأت مخالب الموت تطبق اكثر واكثر على العائلة مع تخلي الناس عنها واستمرار إطلاق الرصاص والقذائف داخل المنزل وتناثر أثاثه ومحتوياته حيث تصف أم عمرو تلك اللحظات بالقول :" كلما دمر الرصاص شيئا داخل المنزل يواسينا المرحوم ويقول بالمال ولا بالعيال، في إشارة للقول العربي المعروف.
في الساعة الـ3:15 توقف صوت الرصاص عندما انطلقت أصوات الجنود تنادي عبر مكبرات الصوت على سكان العمارة بالنزول منها ومغادرة شققهم، باب منزل الدكتور الشهيد كان معدنيا وقد أصيب بالقذائف واختل اتزانه فلم يتجاوب مع محاولات العائلة لفتحه وقف الشهيد الدكتور على نافذة منزله واخذ يصرخ تجاه الجنود باللغة الإنجليزية قائلا:" نحتاج النجدة، نحن مدنيون عزل ومسالمون وأنا وكل سكان هذا البيت حاملين للجنسية الأمريكية".
لم تشفع الجنسية الأمريكية للدكتور ولم تنقذه من الموت القادم مع رصاصات القناص فأصيب برصاصات ثلاث كانت كفيلة- كما تقول زوجته- بإسكات صوته دون أن ينطق بكلمة (آه) حتى....
توجهت أم عمرو إلى زوجها المضرج بدمه، حاولت تقليبه فاكتشفت انه فارق الحياة ، خرجت من جواره ودمه يلطخ ثوبها صارخة تستغيث ، ليس من مجيب غير أفراد العائلة الذين فوجئوا بسقوط محمد واستشهاده وهو واقف بينهم، أدركت رصاصة القناص فمه فأسكتته قبل أن يندب والده أو يقول له كلمة وداع أو كما تقول الأم:" لم يذق احدهما حسرة الآخر".
واصلت الأم والأبناء علي ابن الأعوام الـ11 وديانا التي احتفلت العائلة بخطوبتها قبل شهر فقط الصراخ حين حضر احد الجنود إلى باب المنزل طالبا من الجميع الخروج، كانت الزوجة تصرخ وتريد من يخرج زوجها وابنها الشهيدين من داخل المنزل، لم يرد الجندي إلا بصوت أعلى:" اسكتي يا مرة"، طالبت الضابط إحضار أطباء ولو من المجندين مع الجيش فرفض، طالبته السماح لأفراد الطواقم الطبية الموجودين على قرب من المكان،رفض كذلك، طالبته باستدعاء أطباء من نفس سكان العمارة ، لكن رغبة القتل عنده كانت اكبر من السماح لطبيب بإنقاذ نفس حية تموت وبعد محاولات فتح الجنود باب المنزل،رفضوا السماح لام عمرو بارتداء أثوابها للخروج من البيت فخرجت بثيابها الغارقة بدماء زوجها أمام فوهة البندقية حيث تضيف:" أثناء مغادرتي البيت سألني الجندي وهو يصوب سلاحه من يوجد في البيت؟؟ فقلت له زوجي وابني محمد وكلاهما قد فارقا الحياة.
فكرر الجندي سؤاله قائلا ومن غيرهما؟ أجابت أن لا احد ، فقال لها الجندي إن الرصاص أطلق من داخل المنزل فنفت ذلك.
إعدام بدم بارد
وتقول أم عمرو:" الجيش الإسرائيلي ادعى أن احد المطلوبين الذين استشهدوا قرب المنزل لجأ إليه وهذا محض افتراء فالطريق الوحيد للمنزل يمر عبر شارع مكتظ بالدبابات والآليات العسكرية ومع ذلك قتلوا زوجي وابني فماذا يمكن أن يسمى ذلك غير الإعدام بدم بارد وغير القتل مع سبق الإصرار والترصد.
وتتساءل أم عمرو عن الحال الذي وصلته حياة الفلسطينيين قائلة:" جيش الاحتلال ينتهك حرمات المنازل يقتل من فيها صباح مساء، كيف يمكننا أن نشعر بالأمن ومن يوفره لنا.
وتواصل بلهجة باتت تختنق فيها حروف الكلمات وهي تخرج حية من فم لا يكاد يتحرك بعد أن أعياه التعب قائلة:" عمود بيتي ورب أسرتي ومعيلها قتل بدم بارد، من سيقف إلى جانبنا الآن؟؟ وكيف يمكن لي أن أهدأ قبل محاسبة كل المسؤولين عن إراقة دمه مع ابني، من سيطالبني بإسقاط حقي بعقاب ومحاسبة كل شريك في جريمة قتلهما؟لن أهدأ ولن أتوقف قبل أن أرى المسؤولين عن هذه الجريمة باختلاف مواقفهم ورتبهم العسكرية والسياسية في محكمة العدل الدولية.
وتعود أم عمرو إلى لحظات المأساة وهي تستجمع قواها مجدا وتقول :" عندما خرجت من البيت فوجئت من المشهد في كل متر قناص، هل نحن في خرب فعلا؟ تتساءل.
وتقول أم عمرو بعد مغادرتنا دخل الجنود المنزل، كأن الجدران أصبحت عدوتهم فأغرقوها بالرصاص كانوا يخشون أن يبقى شبرا منها لم يطله رصاصهم وهم خارج المنزل، القذائف دمرت المنزل والأثاث، والرصاص لم يترك لنا شيئا نأخذه، تاريخنا وذكرياتنا وأحلامنا وأيامنا السعيدة دفنها جيش الاحتلال بهدم المنزل، وبين مقتنياتنا والوثائق الرسمية الخاصة بنا فيه تاريخنا واجمل اللحظات التي عشناها غطاها جيش الاحتلال بغطاء من الدماء.
وتواصل أم عمرو تساؤلاتها نم سيعوضنا كأسرة فقدت معيلها، وكمجتمع فقد أستاذا ومربيا وعالما وأكاديميا ومربي أجيال.
وتلخص أم عمرو رسالتها للعالم بضرورة مساندتها لتقديم من تصفهم بالمسؤولين عن الجريمة للعدالة لينالوا جزاءهم ويكفوا عن العبث بحياة الفلسطينيين وأمنهم.
ديانا .. كان صديقي
وتصف ديانا ابنة الشهيد الدكتور خالد صلاح علاقتها بوالدها ولحظات الوداع التي افتقدته بها بالقول لم يكن والدي فقط، كان والدي وصديقي، مازلت اذكر نظرات الحنان في عينيه وهو يحملني بيديه من السرير ليبعدني عن الخطر، و اليوم أنا وحيدة.
وتضيف كنت أرى الرصاص ينهمر علينا من مختلف الأسلحة بما فيها الطائرة المروحية التي تحوم في المكان فأخذت ابكي، نظر إلي وقال أتبكين وأنت قوية الإيمان ، لا يجب أن تبكي.
وتضيف ديانا:" احمل الجنسية الأمريكية وأتحدث الإنجليزية بطلاقة وأنا فلسطينية وكل ذلك لا يوفر لي الأمن من رصاص جيش الاحتلال، لن أتحول إلى يهودية حتى أعيش الأمن.
وتلفت ديانا النظر إلى معادلة يتعامل جنود الاحتلال بناء على حساباتها وهي تقول:" عندما يقتل جندي أو أكثر في أي عملية يصبح قتل الفلسطينيين هدفا عند الجنود".
وتستدل على ذلك بقولها:" سألني الجندي لماذا تبكين؟ فقلت له: لقد قتلتم أبي وأخي , فأجاب: بل انتم قتلتم اثنين من أصدقائي.
النجاح : كارثة جديدة
ويعبر الأستاذ سامي الكيلاني مدير دائرة العلاقات العامة بجامعة النجاح الوطنية عن حجم الخسارة التي لحقت بالجامعة باستشهاد الدكتور صلاح قائلا:" ما نطالب به اليوم أن يكون استشهاد زميلنا الدكتور خالد رسالة إنسانية للضمير في العالم بضرورة توفير الحماية والأمن للمؤسسات الأكاديمية .
ويعلق الكيلاني على تعليق الدوام في جامعة النجاح بعد استشهاد الدكتور صلاح قائلا:" تعليق الدوام هو رسالة استغاثة وجهتها الجامعة كصرح إنساني اجتماعي تعليمي بضرورة إخراجه من دائرة استهداف جيش الاحتلال.
أما الدكتور رياض عبد الكريم عميد كلية الهندسة التي يحاضر فيها الدكتور الشهيد صلاح فيقول:"لقد عرفته جيدا خلال أداء رسالته المهنية والأكاديمية كان يحدثني عن الكثير من الإيمان ورأيت في حديثه قوة الإيمان وصدق العقيدة واحسبه عند الله شهيدا مصطفى والشهيد الدكتور خالد صلاح من مواليد نابلس عام 1954 وحصل على شهادة البكالوريوس في الهندسة الكهربائية من جامعة المستنصرية بالعراق ثم حصل على الماجستير والدكتوراه من جامعات بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية قبل أن يصبح أستاذا ومحاضرا بجامعة النجاح عام 1985 والشهيد الدكتور أب لأربعة أبناء أكبرهم عمرو يدرس حاليا في أمريكا وابنه محمد الذي استشهد معه وعلي (11عاما) وديانا (23عاما).
لمزيد من المعلومات اضغط هنا