كان يامن يدرس في الصف الثالث الابتدائيّ حينما طُلِب منه إلقاء قصيدة في احتفالٍ نظّمته مدرسته في الأردن حينما فاجأ جميع الحضور و بدأ يردّد: "أنا الطفل الفلسطينيّ .. قوي كالبراكينِ" .... فلم يكن أمام مديرة المدرسة سوى المسارعة إلى إسكاته و إنزاله عن المنصة .
تلك الحادثة التي كشفت عن نموٍّ مبكّر للحسّ الوطني لدى الشهيد يامن فرج ، القياديّ البارز في كتائب أبو علي مصطفى الجناح العسكري للجبهة الشعبية ، كشفت كذلك عن روحٍ وطنية وقّادة و وعي سياسيّ تبلورت ملامحه مع مرور السنين ليتحوّل إلى غضبٍ عارم على الاحتلال و كلّ ما يمتّ له بصلة .
كان مقتنعاً أنّ فلسطين لا تحتاج للكلام الكثير ، فحصل على شهادة الصحافة ، و ألقى بقلمه جانباً ، و التحق بصفوف المقاومة لينهي حياته قابضاً على السلاح ، و ليكتب بدمائه ما عجزت عنه كلّ أقلام الصحافيين .
و يقول طيب علي فرج – والد يامن : "كنّا نقول إنّه لن يعيش طويلاً ، لقد كان محبّاً للسياسة و غرائب الأمور ، و يُقبِل عليها بشجاعة نادرة .. يتحدّى الصعاب و يعشق المغامرات .." ، و يضيف : "لقد شارك و هو في سنّ العاشرة في حفل تأبين الشهيد غسان كنفاني" .
و عن حياة و نشأة يامن ، يقول والده إنّه وُلِد في بلدة مادما قضاء نابلس عام 1978 ، و انتقل بعد ثلاث سنوات للعيش في مدينة الرصيفة بالأردن حيث كان والده يعمل في الكويت ، و بقيَ يامن في الأردن ستّ سنوات حتى انتهاء الصف الثالث ، حيث عاد إلى مسقط رأسه ليكمِل تعليمه هناك .
نشأ يامن وسط عائلة كبيرة قوامها 14 فرداً ، و رغم ذلك فقد كان متفوّقاً في دراسته كما هو حال باقي إخوته الثمانية ، فالوالد يحبّ العلم ، و هو كما يقول مستعدٌّ للتضحية حتى بدمائه إنْ لزم الأمر لتعليم أبنائه .. "شعبنا لا يمكن له أنْ ينتصر بدون العلم .." قال والده .
ولعُهُ بالسياسة و النشاط المقاوم جرّ عليه المتاعب ، فاعتقل أواخر الانتفاضة الأولى و قضى 14 شهراً في السجون الصهيونيّة ، و أصيب في اليوم الأول لانتفاضة الأقصى بجراحٍ في القدم اليمنى و الفخذ في المواجهات التي كانت تدور قرب قرية كفر قليل عند المدخل الجنوبي لنابلس ، ذلك الموقع الذي خطف عشرات الشهداء مطلع الانتفاضة الحالية .
و بلغ من إصرار يامن على مواصلة تعليمه أنْ أكمل السنة الأخيرة من دراسته الجامعية بقسم الصحافة في جامعة النجاح و هو مُلاحقٌ من قِبَل قوات الاحتلال التي لم تنفك تداهم منزل العائلة في مادما بين الحين و الآخر علّها تظفر به و تنال منه .
و يؤكّد والده أنّه كان يكتب في وسائل الإعلام المحلية بأسماء مستعارة ، فقد كان شغوفاً بالسياسة و العمل الصحافيّ ، و كان من أقرب أصدقائه الشهيد الصحافي محمد البيشاوي الذي قضى عام 2001 إثر قصف الطائرات الحربية الصهيونيّة لمكتب الدراسات بنابلس .
لكن حبّ الصحافة ، كما يقول والده ، لم يكنْ ليحول بين يامن و العمل العسكريّ ، فخاض غماره بكلّ ثقةٍ و دون تردّد ، رغم علمه بالمتاعب و التضحيات التي سيتكبّدها أهله ، إذ هدمت قوات الاحتلال منزل العائلة ، و شرّد أفراد أسرته على عددٍ من منازل الأقارب و الجيران .
و حتى مبلغ الـ 3 آلاف دولار الذي تلقّاه للمساعدة في إعادة بناء منزل العائلة أخذه و اشترى به سلاحاً و ذخيرة ، "ففلسطين بيته الأكبر و هي تحتاج لمن يضحي بمنزله الشخصي من أجلها .." كما يقول والده ..
لم تكنْ فلسطين بالنسبة ليامن بيتاً و وطناً فحسب ، بل كانت أمّه و أبوه و كلّ أهله ... كان يقول لأمّه : "عندك تسعة أبناء ، يكفيكِ منهم ثمانية و اتركي واحداً لفلسطين ..!" .
أنْ تكون مقاوماً للاحتلال لا يعني أنْ لا تعيش كسائر البشر .. حكمة آمن بها يامن الذي كان في أسابيعه الأخيرة يجهّز لخطبة إحدى الفتيات ، كان يقول لوالده الذي حاول ثنيه عن ذلك : "لو كنت أعلم أنّ موتي سيكون بعد ساعة فسأواصل حياتي كالمعتاد" .
و كان أنْ حدّد يامن موعد الزفاف يوم السبت 9/7/2004 ، لكنّ الشهادة كانت اأقرب إليه من ذلك ، فاستشهد يوم الثلاثاء من الأسبوع السابق خلال اشتباكٍ مسلح عندما داهمت قوات الاحتلال المنزل الذي تحصّن فيه مع رفيق دربه الشهيد أمجد مليطات "أبو وطن" و قُتل في تلك الليلة ضابط و جنديّ صهيونيان .
تأثّر يامن باستشهاد اثنين من رفاقه جبريل عواد و فادي حنني أواخر العام الماضي ، و مع توالي حملة الاغتيالات في صفوف قيادات المقاومة في نابلس ، أحسّ يامن بمؤامرةٍ تُحاك في الظلام تستهدف كلّ من يرفض إلقاء السلاح ، و تعزّزت هذه القناعة لدى يامن عند استشهاد نايف أبو شرخ قائد كتائب شهداء الأقصى و عدد من قادة كتائب القسام و سرايا القدس قبل عشرة أيامٍ فقط من استشهاده ، و تحدّث عن ذلك صراحة و على مسامع الحاضرين في حفل تأبين نايف أبو شرخ .
و بعد استشهاد نايف كان يامن مشغول البال و كأنّه كان يعلم بقرب منيّته ، حتى أنه وصّى رفاقه بمكان دفنه ، و يقول والده : "بعد استشهاد يامن سألني رفاقه أين تريد أن تدفنه ؟ فأجبت : عند بداية المقبرة و قرب الشارع حتى يكون قريباً من زواره ... عندها أطرق رفاقه و نفرت الدموع من عيونهم ، فسألتهم عن سبب ذلك ، فقالوا إنّ ذلك ما وصّى به يامن بالتحديد ..!" .
و يقول الوالد و قد أجهش بالبكاء : "الله يرضى عليه .. كان أملي و زهرة أولادي .. كان يقول لي (إرفع رأسك يا أبي) .. الحمد لله ، لقد رفع رأسنا عالياً .." . و يضيف : "يامن ابن الجميع ، لم يكنْ متعصّباً لأيّ فصيل ، الكلّ كان يحبّه داخل البلدة القديمة بنابلس .. مش خسارة في الوطن" .
كان محباً للناس ، و يؤثرهم على نفسه .. يقول والده ، و يضيف : "إحدى النساء كانت تنتحب يوم جنازته و تقول (سنموت من الجوع بعد اليوم) ، و عندما سألت رفاق يامن عن تفسير ما تقوله تلك المرأة ، أجابوني أنّ يامن كان ينفق من مخصّصاته على الفقراء ، و قبل أسبوع سدّد مبلغ 100 دولار لبائع الألبان ثمن بضائع اشتراها للمحتاجين" .
قوات الاحتلال التي ذاقت الويلات على يد يامن جاءت بعد استشهاده للتشفي بعائلته ، و قال الضابط الصهيونيّ لوالده : "ها قد قتلنا ابنك .. ألم ننصحك مراراً بتسليمه لنا ؟" ، فيجيبه الوالد : "لكن ابني هو الذي انتصر في النهاية ، فابني شهيد و أنا لم أخسره ، لكن أنتم الذين خسرتم ضابطاً و جندياً" ... فيحاول الضابط إثارة الرعب في نفوس أشقاء يامن و يقول لهشام : "متى سنرى "بوستراتك" أنت أيضاً"..
المعركة التي بدأها الاحتلال لم تنتهِ بعد في نظر والد يامن ، و ما يمارسه الاحتلال من عدوانٍ متواصل لا يدعو أبداً إلى الاستغراب .. "فهو عدوٌّ و علينا أنْ نواصل المعركة التي انتصر فيها يامن و كلّ الشهداء" .
|
||||
|
||||
|
||||
|
||||
|