"لقد انتهى اجله .. و كان من الممكن أن يموت في تلك اللحظة بشكل طبيعي، لكن الله اختار له هذه الميتة ، وقدّر له الشهادة جزاء له على جهاده وتضحياته".
بهذه الكلمات افتتح حامد حديثه عن والده الشهيد سليم حامد العامودي (55 عاما) احد رجالات الحركة الإسلامية في محافظة نابلس الذي نال شرف الشهادة وهو على فراش الموت بين أيدي المخابرات الصهيونيّة يوم الثلاثاء 6/7 لدى عودته من العلاج في الأردن.
ويشير حامد بأن والده أصيب بسرطان المثانة في صيف عام 2001 لتبدأ بعدها مرحلة من المعاناة مع عدوّين اثنين: المرض الذي اخذ يفتك به من جهة ، والاحتلال الذي تفنن في تعذيبه ومضايقته مستغلا مرضه من جهة أخرى.
ومع اضطراره للسفر إلى الأردن لتلقي العلاج من المرض الذي ألمّ به ، اصطدم العامودي بالاحتلال الذي وضع العراقيل أمام سفره في محاولة للضغط عليه وتحطيم معنوياته ، ومنعه من السفر أكثر من مرة إلا انه نجح بعد جهد كبير بالسفر خمس مرات لحضور جلسات العلاج، لكنه في كل مرة كان يخضع للتحقيق أثناء ذهابه أو عودته.
وعن معاناته مع الاحتلال في هذه المرحلة ، يقول حامد إن سلطات الاحتلال كانت تقف حجر عثرة أمام سفره في كل محاولة من محاولاته وكانت ترد معظم الطلبات التي يتقدم بها للسماح له بالسفر ، وفي إحدى المرات قرر التوجه إلى الجسر دون تنسيق مسبق بعد أن اشتد مرضه ولم يعد يحتمل التأخير وكاد ينجح بالعبور لولا أن رجال المخابرات تنبهوا له فاحتجزوه طيلة ذلك اليوم وحتى نهاية دوام الجسر ومن ثم أعادوه إلى نابلس وهو في حالة صحية صعبة.
وفي المرة الأخيرة التي حاول فيها العامودي السفر إلى الأردن أصرت سلطات الاحتلال على منعه من ذلك تحت كل الظروف مما اضطره إلى التقدم بدعوى أمام المحكمة الإسرائيلية عن طريق المحامية ليئا تسيمل وبالتنسيق مع المحامي فارس ابو الحسن مدير مؤسسة التضامن الدولي لحقوق الإنسان فعرضت عليه السلطات السفر مقابل الموافقة على عدم الرجوع إلى الأراضي الفلسطينية لمدة 6 شهور الأمر الذي رفضه العامودي وتقدم باستئناف لدى المحكمة التي خفضت مدة الإبعاد إلى شهرين مقابل تعهده بعدم العودة قبل مضي هذه المدة بالإضافة إلى تسليم السلطات أرقام هواتف في كل المواقع التي سيتواجد فيها خلال هذه المدة حيث أعطاهم أرقام هواتف مستشفى الأمل والمستشفى الإسلامي ومنزلي شقيقيه في الأردن.
العودة إلى الوطن
وخلال فترة علاجه الأخيرة في الأردن اشتد معه المرض وخضع لعملية "فتاق" دخل بعدها في مرحلة حرجة ووضع في العناية المركزة لمدة ثلاثة أيام متواصلة ، وقبل انقضاء مدة الشهرين اقترح عليه الأطباء العودة إلى نابلس بعد أن استنفذوا كافة سبل العلاج ، فقرر العودة قبل أسبوع من انتهاء المدة لكن سلطات الاحتلال كانت له بالمرصاد ومنعته من العودة متمسكة بشروط الاتفاق الموقع من قبله، مما اضطره للانتظار أسبوع آخر حتى انقضاء المدة.
واستعدادا لعودته اتخذ العامودي كافة الإجراءات المطلوبة ونسق مع الصليب الأحمر لتسهيل عودته وتوفير سيارة إسعاف مجهزة باحتياجاته الطبية، غير أن سلطات الاحتلال أصرت هذه المرة على مضايقته ، فبعد نقله من سيارة الإسعاف التابعة للمستشفى الإسلامي في الجانب الأردني إلى سيارة الإسعاف التابعة للهلال الأحمر في أريحا ، اجبر جنود الاحتلال زوجته التي كانت ترافقه خلال رحلة العلاج على تركه والمرور من المكان المخصص لباقي المسافرين على خلاف ما هو معمول به في مثل هذه الحالات وخاصة انه تم التنسيق مع الصليب الأحمر كما تم إبعاد طاقم الإسعاف ومنعوه من تقديم الرعاية الطبية اللازمة رغم التقارير الطبية التي كان يحملها والتي تؤكد خطورة وضعه الصحي.
وفي جو أريحا شديد الحرارة أطفأ رجال المخابرات سيارة الإسعاف من الساعة الرابعة وحتى السابعة من عصر يوم الثلاثاء ورفعوا أجهزة التنفس الاصطناعي عن العامودي وبدؤوا باستجوابه بقسوة وعنف وعندما اخلوا سبيله كان قد فارق الحياة ملبيا نداء ربه شهيدا.
وفيما تؤكد تقارير الهلال الأحمر أن سلطات الاحتلال تتحمل المسؤولية عن استشهاد العامودي، تعتبر عائلته أن مجرد احتجازه في ظروف قاسية وهو في حالته المرضية وتأخير عودته إلى نابلس يعدّ جريمة تتحملها سلطات الاحتلال.
سلطات الاحتلال من جانبها حاولت التغطية على جريمتها بادعاء أن التأخير كان بسبب عدم وجود الضابط المسؤول ، لكن هذا الادعاء الباطل تكذبه الحالة التي كان عليها الشهيد العامودي بعد إخلاء سبيله ، كما يكذبها طاقم الإسعاف الذي منع من تقديم أي شكل من المساعدة له.
ويشير حامد إلى الجهود الكبيرة التي بذلتها جمعية الهلال الأحمر وكذلك الجمعية العلمية الطبية التي عملت على إحضار جثمان الشهيد من مستشفى أريحا إلى مستشفى رفيديا بنابلس في ساعة متأخرة من الليل رغم الحواجز العسكرية التي تحيط بالمدينة من اجل تشييع جثمانه صباح اليوم التالي.
حياة حافلة بالتضحية والجهاد
ورغم أن العامودي لم يتجاوز سن الـ55 من عمره إلا أن سجل حياته كان حافلا بالمواقف المشرفة والتضحيات الجسيمة في سبيل الله ، فهو من أوائل المنتسبين لجماعة الإخوان المسلمين في نابلس حيث انتمى إلى الجماعة في سن مبكرة جدا وهو سليل عائلة مجاهدة ، فوالده الشيخ حامد العامودي كان من المجاهدين الأوائل، ويعدّ منزل العائلة في منطقة رأس العين أول بيت هدمه الاحتلال الإسرائيلي في نابلس بعد احتلالها وكان ذلك في العام 1969 ولا تزال عائلته مشتتة بين فلسطين والأردن إلى اليوم ،كما قضى الشهيد العامودي سنتين ونصف من عمره في سجون الاحتلال في تلك الفترة وتعرض للتعذيب الشديد ومنع من السفر إلى الخارج لأكثر من 15 عاما ، وعانى عدد من أبنائه أيضا من الاعتقال في سجون الاحتلال والسلطة.
كان الشهيد العامودي من بين القلائل الذين تمسكوا بتعاليم الدين الحنيف في الوقت الذي كانت رياح العلمانية والشيوعية تعصف بالمنطقة وكان الدين غائبا عن حياة الغالبية الكبرى، كما انه انتصر للإسلام في أكثر من موقف وكان لا يخشى في الله لومة لائم وكانت له جولات دعوية في أم الفحم وكفر قاسم وغيرها من الأراضي المحتلة عام 48 وساهم في نشر الوعي والصحوة الإسلامية بين أبناء شعبنا هناك.
وتمتع الشهيد بشخصية محبوبة بين إخوانه وكافة أبناء نابلس ، ولعل في جنازته المهيبة التي خرجت يوم الأربعاء ما يشير إلى تلك الصفة التي تحلى بها ، فقد شارك الآلاف في الموكب الجنائزي الذي انطلق من المسجد الصلاحي الكبير بعد ساعات قليلة من الإعلان عن استشهاده ، كما أن الوفود الكثيرة التي أمّت بيت العزاء وبرقيات التعزية دللت جميعها على مدى تقدير أهالي نابلس لهذه الشخصية المجاهدة.
|
||||
|
||||
|
||||
|
||||
|
||||
|