"الاحتقان و الغضب يعمّ أهالي مخيّم بلاطة و ألاحظ أنّ الدوريات العسكرية بدأت تحاصر المخيّم و الكلّ بدأ بالخروج من المنازل بعد سماعه خبر استشهاد الشيخ ياسين" ...
بهذه الكلمات ختم الشهيد الصحافي محمد أبو حليمة تقريره الأخير , و لعلّه بها أنهى سجلّ حياته على الأرض التي ما عرفته إلا حاملاً عدته الصحافية ينقل الخبر و يتابع آخر المستجدّات ليزوّد المواطنين في نابلس بالصورة تلو الصورة عن تفاصيل الجريمة التي لن يكون حتماً آخر ضحاياها , أطفال أمام بيوتهم يُقتَلون , جنود و رصاص و حشود عسكرية تتنقّل من بيتٍ لأخر هاتكة حرمة المنازل مروّعة الآمنين .. هكذا كان الحال في بلاطة اللاجئين الذي غار جرحه أكثر في وداع رجلين عزّ عليه فراقهما , الشيخ الشهيد أحمد ياسين و ابن المخيم الصحافي محمد أبو حليمة .
ابن الخيمة :
و كمثل أقرانه في المخيّم ولد أبو حليمة في مخيم بلاطة للاجئين الفلسطينيين شرق نابلس في 22/3/1983 لأسرة متدينة معروفة في المخيم بالتقوى و الصلاح ، هاجرت من مدينة اللد عام 1948 ، ليخرج إلى النور وسط الخيمة يلعب مع الأطفال في قلب الأزقّة الصغيرة التي لم تعدْ عن بطش الاحتلال و أذاه ببعيد , أحسّ محمد منذ نعومة أظفاره بقسوة الحياة بعيداً عن أرض الأجداد , تحدّث كثيراً عن ذلك دون أنْ يضيره تجريح من اعتبره من الذين يعيشون أحلام العودة المستحيلة, كان يؤمن بالفعل و العمل , و يكفر بالصمت , أراد أنْ يتكلّم و يخرج ما في صدره منذ نعومة أظفاره فنطق بلسانه الحجر.
التحق محمد بمدارس الوكالة التي ضجّت بثقل حمل اللاجئين دون أن يضجّ اللاجئون بثقل عقود الانتظار و سنواته الطويلة , و لتحقيق حلمه بالمستقبل الذي يخدم ذاته كشخصٍ و قضيته كلاجئ أكمل الثانوية العامة بمدارس نابلس و حصل على شهادته الثانوية من الفرع الأدبي حيث يصفه أصدقاء طفولته بالقول (كان إنساناً) ..
و في النجاح التحق محمد بكلية الآداب و منذ اليوم الأول له فيها وجّه أنظاره نحو قسم الصحافة , كان يؤمِن أنها مهنة المخاطر و كان على استعدادٍ لدفع الثمن الذي كان من دمه , و لم يطلْ الانتظار لحين حمل الشهادة الجامعية , بل التحق خلال دراسته بالعمل الميداني , هنا في نابلس , و في مخيّم بلاطة الحدث لا ينتظر التخرّج , سارع محمد إليه و أصبح مراسلاً ميدانياً لإذاعة صوت النجاح التي تبثّ إرسالها من قلب الجامعة , و أثبت كفاءة ميدانية فائقة زوّده بها إخلاصه لعمله و حبّه إياه و إلمامه بمبادئ علم الصحافة ، فكان يعيش في قلب الحدث دوماً و يأتي بالمعلومة السريعة و الدقيقة إلى جانب ما امتلك من قدراتٍ على قراءة ما بين سطور الحدث , و كان هاتفه النقال مفتوحاً دائماً في وجه الجميع كلّ الوقت .
الصحافيّ الشجاع :
و إلى جانب الحديث عن الصفات الإنسانية في شخصية محمد يكثر أصدقاؤه من الحديث عن مناقب أخرى لا يحملها إلا الشهداء قبل رحيلهم ، حيث يستذكر أصدقاؤه و زملاؤه في قسم الصحافة و العاملين في مجالها من الذين عايشوه لحظات الحدث المواقف التي كان يبدع و يخاطر بحياته لنقلها عن قرب قائلين : "كان مقداماً في تتبعه للحدث ، مخلِصاً للحقيقة لا يخفيها و إنْ كانت مرة و حتى نغمة صوته كانت تقرّ بالحقيقة الكاملة عبر إذاعة "صوت النجاح" ... يبدأ محمد يومه مجسّداً صمود الفلسطيني و يستيقظ النيام على صوته محاولاً إيقاظ الضمائر فيهم بصور كاميراته و صوته الرنان الذي ينادي العالم أن آن الأوان كي تفيقوا ، محمد كان مهذّباً خلوقاً ذو ابتسامة عريضة ، تملأ وجهه النحيل بمعاني الصدق و الوفاء التي نقشت في ذاكرة أصدقائه" .. و هكذا كان يراه الطالب ربيع دويكات من قسم الصحافة و صديق الشهيد الذي يقول عنه : "كان الشهيد محمد أبو حليمة أخاً و زميلاً مخلصاً و رصيناً هادئاً ، لم أذكر أني قد غضبت منه أو أنه آذاني بقولٍ أو عمل و كذلك لم أسمع إنساناً واحداً يذكره بسوء" , و يضيف دويكات في وصفه لزميله : "كان دائماً يحدثني عن الأحداث التي تجري في مخيّم بلاطة و المناطق القريبة التي كانت تغطيتها و نقلها للناس جلّ اهتماماته" . و يقدم دويكات تعريفاً بشخصية الشهيد قائلاً : "كان رحمه الله مثقفاً واعياً أتمنى أن يكتبه الله في فسيح جناته" .
ربيع لم يكنْ الوحيد الذي فقد صديقه محمد ، لذلك لم يكن غريباً أن تتحوّل شهادته إلى موضوع أحاديث الصحافيين في نابلس و في قسم صحافة النجاح , حيث يصف عبد الغني سمارة صديق الشهيد محمد في قسم الصحافة صديقه الشهيد بالقول : "كان الصديق و الأخ مثال الطالب الطموح المجتهد الذي دأب على إيصال الحقيقة ، فلم يتوانَ دقيقة عن نقل الحدث فكان المخلص الأمين" ، و أضاف : "تركتنا يا محمد و لكن روحك باقية فينا فلن ننساك أبداً" .. و ها هو مصعب قتلوني لم يستطع أنْ يعبر عن حزنه إلا بكلمات الحزن و الفراق قائلاً : "أن لا أقول باستشهادك يا محمد إلا و الله أنّ العين لتدمع و إنّ القلب ليحزن و إنا على فراقك لمحزونون ، و نسأل الله العظيم أنْ يجمعنا معك و مع النبيين و الصديقين و الشهداء إنْ شاء الله ، لم يكنْ الشهيد محمد شخصاً عادياً بل كان يملك هذا القلب الطيب المعطاء و هذه الجرأة في تغطية الأحداث" .
و يقدّم الطالب أحمد البيتاوي ، و هو طالب في قسم الصحافة و سكرتير للجنة الثقافية في مجلس الطلبة ، شهادة من نوع آخر للشهيد محمد قائلاً : "لم يكن أنانياً , كان يسعى دائماً لتطوير ذاته و قدراته إلى جانب حبه خدمة الآخرين و هو لذلك كثيراً ما كان يتحدّث إليّ حول ما يمكن لمجلس الطلبة أن يقدّمه من فوائد و منافع لطلبة قسم الصحافة" .
استشهاده في يوم ميلاده :
22 آذار التاريخ نفسه الذي زفّ البشرى لعائلة أبو حليمة عاد بعد واحدٍ و عشرين عاماً يلفّه الحزن و الكآبة و هو ينقل أخبار الموت الذي حملته رصاصة قنّاص صهيونيّ إلى قلب محمد بعد أنْ خرج صباحاً من كلّيته لينقل تفاعل الشارع اللاجئ في بلاطة مع استشهاد أحد رموز قضية اللاجئين في غزة - كما يصف الكثيرون حدث استشهاد الشيخ ياسين – و خيّم الحزن على المخيّم مرتين و فقد والدا محمد زهرتهما التي تفتّحت بدماء القلب تقدّم محمد يوثّق الحدث و ما كان يدري أنّه سيكون ضحيّته , و أضيفت صورته إلى صور من سبقه من شهداء قسم الصحافة بجامعة النجاح , لحق بالنجار و البيشاوي و علاونة ، و أقيمت بيوت العزاء من جديد في حرم الجامعة التي ما زالت تجد متسعاً من الوقت لتودّع الشهداء , كان ذنبه أن تعرّض لنظرة القنّاص التي لا تطيق أنفاس الحياة , و ربما كانت الكاميرا في يده تهمة , و ملامحه الفلسطينية جريمة تستحق أنْ يُرمى لذنبها بالرصاص, ، سقط محمد و هو مبتسم و نقل إلى المستشفى بحالة خطرة و فاضت روحه إلى السماء لتبكي الحقيقة في زمن أضاعت ملامحه الدماء .