"ليس ببعيدٍ عن الحياة الرمضانية تحت الاحتلال , تحيى نابلس ليلها بعيداً عن طبيعتها في شهر رمضان المبارك ، أربعة أعوامٍ و الخوف ما زال سيّد الموقف في ليل مدينة الحواجز العسكرية و البوابات ... و يمضي رمضان" .
شهيدٌ جديد :
قدري عاشور شهيدٌ آخر سقط برصاص الاحتلال مع تناول المواطنين لطعام الإفطار ليلة القدر الرمضانيّة , كان ينتظر أذان المغرب , أراد أنْ يرتوي فكان قدره أنْ تكون شربته من الكوثر , و أنْ يلاقي الله صائماً , والد الشهيد قدري توجّه للبيت و بقيَ ابنه مكانه في محل بيع الحلويات على دوار الشهداء وسط مدينة نابلس التي عرفت بازدهار أسواقها الليلية في رمضان , كان قدري يعلم أنّ الوقت هو من ساعات نابلس المستباحة طوال اليوم , لكنّه ما كان يدري أنّ موعداً مع الشهادة قد رتبه له وقوفه على قارعة الطريق في ساعة الإفطار , و لم يكن يعلم أنّه في المكان أو الزمان الخطأ , و لم يكن ليعلم أنّ المواطنين الذين سيحضرون بعد إفطارهم لشراء الحلويات لن يشاهدوه , و ربما سيشارك أغلبهم في اليوم التالي في جنازته , هذا معنى أنْ تعيش تحت الاحتلال "يلخّص الحدث حكاية الفلسطينيين مع محتلهم" , فهنا مجرّد حياتك جريمة قد تُعاقب عليها بالموت في أي لحظة .
دورة الحياة :
"خروب ، عسل" ، "سوس ... سوس" ، "تمر هندي" ، عبارات علقت بالذاكرة الشعبية الفلسطينية , و أصبحت جزءاً ملازماً لطبيعة شهر رمضان , لكنّها مقصورة على ساعات المساء و قبل الإفطار , أمّا الليل فلا تكاد تجد فيه علامات توحي أنك تعيش رمضان إلا بحركة الناس على عجل ذهاباً للمساجد و إياباً لمنازلهم بعد صلاة التراويح , ثم تعلن الساعة وقف عقاربها و تتوقّف نبضات الحياة .
و ليس باعة المشروبات الرمضانية من تمرٍ و سوس و خروب و غيرها من المشروبات التي بات بيعها تقليداً رمضانياً و فلوكلوراً شعبياً ، ليسو وحدهم من يختفون في ليل نابلس الرمضاني ، محلات الكنافة النابلسية الشهيرة أيضاً تواصل فتح أبوابها لساعاتٍ قليلة بعد الإفطار ثم تغلق ، و كذلك المقاهي و أماكن السمر التي يتبادل فيها المواطنون أطراف الحديث المكرّر عادة , حيث يقول صاحب إحدى محلات الكنافة و الضيق بادٍ عليه : "رمضان موسم ، ساعات النهار نمضيها بالتحضير وإعداد الحلويات ثم يبدأ ماراثون البيع" .
تعاقب الحياة و الموت :
و تقود الأوضاع الحياتية ذلك الرجل لعقد مقارنة بين اليوم و أحوال الأمس قائلاً : "هذه الأيام لم نعدْ نستخدم عبارة "نفّقنا" لأنّ بضاعتنا دائماً موجودة ، نحن نعاني الكساد , في السابق كنّا نبيع بعد العصر إلى المغرب , و نفتح أبوابنا حتى ساعاتٍ متأخرة من الليل ، كان الزبائن يحضرون إلينا لتناول أطباق الحلويات و خاصة الكنافة النابلسية داخل المحلات ، أمّا اليوم فنحن نختصر الكميات كثيراً ، لا نستطيع أن نفتح محلاتنا ليلاً" .
و يتحدّث صاحب المحل عن عددٍ كبير من المخاطر التي يمكن أن يلاقيها إذا استمرّ في فتح محله ليلاً , لكنّه يعد الوحشة و عودة الناس إلى بيوتها أول المحبطات قائلاً : "لماذا أنا مضطر لفتح المحل ليلاً و أنا أرى الشوارع خالية من المارة ، بضع سيارات تنقل من كانوا يتزاورون أو يتبادلون العزائم في الشهر الفضيل و أولئك متخمون من الضيافة و ليس بودهم تناول أطباقٍ من الكنافة فلمن أفتح المحل ليلاً" .
و يضيف أنّ الوضع الأمنيّ لا يساعد قائلاً : "هنا الظروف لا تخدم طبيعة العمل الليلي ، ربما تحسّنت الأحوال قليلاً عمّا كانت عليه قبل عامٍ أو عامين لكنّ العمل ليلاً مجازفة كبيرة ، لا تدري أيّ ساعة قد يحضر إلى الشارع جيبٌ للاحتلال فلا تدري كيف و من أين يبدأ الاشتباك , و لا تعلم إنْ كنت ستقتل أصلاً حتى دون اشتباك كما حدث مع الشهيد عاشور" .
و يستشهد الكثير من المواطنين على تردّي الحياة الأمنية و ما خلفته من أضرارٍ بالحياة الاجتماعية و الاقتصادية بحادث استشهاد الشاب عاشور و لسان حالهم يقول إنّ الموت في نابلس هو أقرب الأشياء للإنسان , يكفيك أنْ تعيش هنا لتضع حياتك أمام فوهة البندقية .
و يرى صاحب المحل هذا أنّ حياته كلّها في كفّة موازية لعمله و بيع بضعة أطباق من الحلويات قائلاً : "لست المتضرّر الوحيد ، هكذا الظروف ، المقاهي تعدّ ليل رمضان موسماً و مع ذلك تجبرها الظروف على الإغلاق ليلاً ، الحياة هنا صعبة جداً , و علينا أنْ نتكيّف مع هذه الظروف , ربما يكون رصاصهم قاتلاً , لكنّنا لن نقتل أنفسنا بأيدينا خوفاً على الحياة , و لن نتوقّف عن مزاولة أعمالنا و نشاطنا لأنّ هذا العمل موت كذلك" .
سقوط الشهيد عاشور في نابلس أثار المشاعر الساخطة و الحزينة في قلوب المواطنين الذين تشرق شمسهم كلّ يومٍ لتحمل لهم نبأ نائبة جديدة حلّت بهم في ليل رمضان .