كتب حروف المجد بفصاحة صمته و نقشها بدمه على جدران الذاكرة الفلسطينية المكتنزة بقصص الوفاء للأرض و الناس و المبدأ الكريم ...
قيس عدوان … رئيس مجلس الطلبة في جامعة النجاح الوطنية ، قائدٌ طلابي لم يثْنه حمل الأعباء النقابية و الأكاديمية على كاهله عن حمل هموم الوطن في نفسه و جرح الأرض في قلبه لتكون له الزعامة على كرسي المجد ككلّ الشهداء .
قائد طلابيّ ناجح :
ولد الشهيد قيس عدوان نصار أبو جبل في مدينة جنين لأسرةٍ تعود أصولها إلى قرية سيريس في العام (1977) .
و اعتقل في سجون الاحتلال عدة مرات قبل أنْ ينهي دراسته المدرسية و يلتحق بجامعة النجاح الوطنية لدراسة الهندسة المعمارية عام 1996 حيث أبدى قدراتٍ نقابية و نضوجاً فكرياً و رصانة في التصرّف دفعته للعمل في الصفوف القيادية للكتلة الإسلامية في الجامعة لينتخبه طلبتها رئيساً لمجلس الطلبة في العام 1999 .
و في مجلس الطلبة قاد قيس العمل الطلابيّ بكلّ مهارة و اقتدار و صبر و حكمة و سعة صدر مكّنته من احتواء جميع الضغوط في سبيل إنجاز المصلحة العامة ، فقد كان رجلاً يدرك أنّ المسؤولية تعني خدمة الناس و التعب في سبيل راحتهم ، و هذا ما لمسه جميع طلبة النجاح كبرى جامعات الضفة الغربية في شخصية قيس ، فهم يشاهدونه دائم الحركة و النشاط في حلّ مشاكلهم الأكاديمية و النقابية و أحيانا الشخصية ، كما أنّ حضوره المميّز بين الأساتذة و العاملين في الجامعة قد أكسبه احتراماً عاماً لم يقتصر على أفراد الكتلة الإسلامية التي ينتمي إليها بل و من جميع الأطر و الاتجاهات الطلابية التي يغلي مرجل النجاح بتفاعل أفكارها و طروحاتها ، حيث لا يكاد المرء يصادف شخصاً في الجامعة من الذين عاصروا قيساً دون أنْ يحدثه قصة أو يروي له حكاية كان لقيس دورٌ إيجابيّ فيها .
و مع انطلاق انتفاضة الأقصى المبارك شكّلت النجاح ثقلاً نوعياً و كمياً في عمل المقاومة من خلال عشرات الشهداء و مئات الأسرى و المعتقلين و إنْ كان طلبة النجاح يذكرون قيساً في أول المهرجانات الخطابية ردّاً على تدنيس شارون للحرم القدسي الشريف فإنّهم بالتأكيد قد علموا أنّه رجل الفعل كما القول بعد استشهاده .
أبطالٌ بلا رتب :
و رغم حيازة جامعة النجاح على العديد من أوسمة الشرف في سجل انتفاضة الأقصى بقيَ قيس ألمع تلك الأوسمة و أكثرها ذكراً . فكما قدّمت النجاح أول شهداء نابلس في الانتفاضة (زكريا الكيلاني) و هو من نفس قرية قيس "سيريس" قرب جنين القسام ، قدّمت النجاح شهيدين من مجلس الطلبة الذي كان يرأسه قيس عدوان إضافة إليه نفسه و هما الشهيد "حامد أبو حجلة" منفّذ أولى العمليات الاستشهادية في قلب الكيان الغاصب في نتانيا ، و الشهيد القسّامي "كريم مفارجة" الذي وصفه موفاز بأنّه أحد أعضاء هيئة أركان حماس في الضفة الغربية ، كما كان أول استشهاديّ في الانتفاضة المباركة "هاشم النجار" من جامعة النجاح و من زملاء قيس كذلك .
و جميعهم ينتمون إلى حركة المقاومة الإسلامية (حماس) ، و من قادة العمل الطلابي في الكتلة الإسلامية التي قدّمت حتى اليوم (24) شهيداً بينهم (11) استشهادياً ، و لم يغبْ قيس عن تأبين أحدٍ من الذين سبقوه ، خاصة من زملائه في مجلس الطلبة أو كلية الهندسة التي كانت رائدة في إنبات الشهداء من أمثال حامد أبو حجلة ، و مؤيد صلاح الدين ، و علي الحضيري ، حيث كان يقضي يومه مستقبلاً المهنّئين باستشهادهم في بيوت التهنئة التي تقيمها الكتلة الإسلامية في الجامعة لتزفّ شهداءها ، كما كان شديد الحرص على التواصل مع أسرهم و يرى في ذلك أقلّ مظاهر الوفاء التي يجب أنْ تُقابَل بها بطولات الشهداء .
"يا إخوتي .. استشهدت فاحتسبوني" :
و لم تكن مشاركة قيس أسر الشهداء مشاعرهم و حرصه على التواصل معهم ناتجة عن دافع الواجب الاجتماعي فقط ، بل كان قيس شديد الوفاء ، معروفاً بحديثه الدائم عن أصدقائه الشهداء الذين كان يذكرهم كلّ حينٍ و هو يحتبس في عينيه عبرة تخذله عند اشتداد الشجون ، و لعلّ ذلك ما دفعه للالتحاق بركبهم و السير في الطريق الذي عبّدوه من حمرة دمائهم .
فقد أصبح قيس يشعر أنّه تحت المراقبة و تعرّض لمحاولة اغتيالٍ عندما أطلقت النار على نافذة المنزل الذي يقيم فيه أثناء وضعه اللمسات الأخيرة على مشروع تخرّجه من قسم الهندسة المعمارية و هو الأمر الذي دفعه إلى ضبط تحرّكاته و اتخاذ سواتر أمنية من باب الحيطة و الحذر قبل أنْ تصدر إحدى الصحف العبرية قائمة بأسماء قادة كتائب عز الدين القسام في الضفة الغربية ليختفي بعدها قيس عن الأنظار نهائياً و يلتحق بإخوانه المطاردين في عالمٍ لا يعلم عنه إلا الله و من كان منهم ..
و خلال مطاردته أعلنت المصادر الصهيونية مسؤوليّته عن عددٍ كبيرٍ من العمليات النوعية التي نفّذتها كتائب القسام خاصة عملية حيفا (30/3/2002) و التي قُتِل فيها 18 مستوطناً و جرح قرابة المائة رافعة قيس عدوان من مهندس معماري إلى "مهندس قسامي" على درب العياش و الشريف و عوض الله و غيرهم من رجالات المدرسة القسامية و رواد صناعة الانتقام ، في وقتٍ اشتدّ الحديث فيه عن ضرورة القضاء على هذا المهندس الذي بات يشكّل جيشاً بأكمله بفعل تأثير عملياته و نجاحها الكبير و دقة اختياره لأهدافه التي بدا من نتائجها أنها مدروسةٌ بعناية .
بقيَ الإعلام الصهيوني مصدر الحديث الوحيد عن قيس في ظلّ غيابٍ ذاتي له عن الساحة الإعلامية مكتفياً بالحضور العمليّ في ضربات المقاومة و الحضور الدائم في قلب اجتماعات المجلس الوزاري الأمنيّ الصهيوني الذي يذكّر بحرب المجرم رابين و الشهيد عياش حين كان رابين يفتتح كلّ لقاءاته الأمنية بالسؤال "أين المهندس ؟" ، و هلك رابين و استشهد عياش بينما بقيت المقاومة تخرّج المهندسين الذين يشغلون بال المحتل و منهم قيس .
حتى جاء يوم الخامس من نيسان و خلال عملية السور الواقي في الضفة الغربية ، حاصرت قوات صهيونية كبيرة المنزل الذي تحصّن فيه قيس مع خمسة من رفاقه في بلدة طوباس بعد أنْ قصفته بصواريخ طائرات الـ (أف 16) و طلبت منهم الاستسلام و لكن هيهات لمن عاش الحياة في طلب إحدى الحسنيين أنْ يرضى بالقيود ، فاختارت المجموعة المواجهة و اشتبكت بالبنادق و القنابل اليدوية مع عشرات الدبابات و المجنزرات و قاتلت قتال الأبطال ، و ارتفع صوت الباقين على قيد الحياة منها بالتكبير مع سباق كلّ شهيد يستبشرون بقرب اللحاق ، و بعد أكثر من سبع ساعات على الاشتباك الذي أبلت فيه المجموعة بلاءً حسناً استشهد جميع فرسانها قيس عدوان و إخوانه الشهداء و شاع الخبر بين الناس و روّجت له إذاعة العدو منذ اللحظات الأولى ، و ذلك للتأثير على معنويات المقاومة الفلسطينية و إشعارها بحتمية الهزيمة كأحد أشكال الحرب النفسية التي تمارسها تلك الإذاعة .
أمّا في جامعة النجاح فقد استُقبِل النبأ بنوعٍ من الصدمة المختلطة بمشاعر الفخر ، فقد كان أولئك الطلبة شديدي التعلّق برئيس مجلسهم الذي اعتادوا أنْ يهتفوا له مطالبين بالمزيد من عمليات البطولة ، و قد شوهد عددٌ من أولئك الطلبة يقبّلون الصورة الكبيرة التي وضعت للشهيد على باب بيت التهنئة في الجامعة بعد أنْ أدركوا حقيقة غياب فارسهم الأروع .
رحل قيس دون كلمة وداع ، و دون أنْ يُغلق الملف الدامي الذي فتحه الاحتلال و مضى فيه آلاف الشهداء ، و لكنّ ملفاً آخر لفارسٍ جديد يفتح مع كلّ شهيدٍ و لا يغلق حتى يرحل المحتل ، فلا زال في شعبنا ألف ألف عياش ، و ألف ألف عدوان ، و مع رحيل كلّ شهيدٍ حتماً يولد قساميّ جديد .