فتحي البلبل : رصاص المحتل أنهى حياة المسنّ في عقده الثامن داخل بيته
عدد القراءات: 2702

هي حكاية الإجرام و حقدٌ دفين تنفثه فوهات البنادق الناطقة بلسان القوّة العاجزة .. و هي تاريخٌ يمتدّ من زحف السراب تؤذيه الحياة ، دقّات قلبه كانت تؤلمهم ، أنفاس شيخوخته طالما أشعرتهم بالعجز عن فهم منطق الحياة .. و لهذا قتلوه ... دماؤه على السرير كانت شاهدةً و كذلك موس الحلاقة الذي اقتات منه لسنوات ...

هكذا روَت قصّة استشهاد المسنّ فتحي  البلبل (85 عاماً) حكاية المحتلّ مع ضحيّته ، حكايةٌ لا مقياس فيها إلا المسافة الفاصلة بين جنديٍّ يحمل الرصاص و عجوزٌ نائم على سريره في سكون الليل و لا منطق إلا منطق القوة التي يضعف صاحبها كلّما تمادى في ظلمه .

 

قصّة استشهاد البلبل أثارت المشاعر و الأحاسيس لدى المواطنين في نابلس ، فرصاص المحتلّ لم يمنح الفرصة للأطفال لمواصلة حياتهم غير أنّه بالنسبة للشهيد البلبل أنهى حياةً طويلة و أطول من عمر المحتلّ نفسه .

تقول زوجة الشهيد البلبل - أم أنور - إنّ زوجها هو عمّ الشهيد عصام البلبل الذي سقط برصاص الاحتلال خلال الانتفاضة الأولى و في العام (1989) .. و تضيف بأسى و حزنٍ شديد على فراقه أنّه يوم استشهاد ابن أخيه احتضن جثمانه باكياً و رفع رأسه بين يديه قبل أنْ يرفع كفّيه للسماء سائلاً الله الشهادة و اللحاق بابن أخيه حتى أصابه ما تمنّى و استشهد في بيته الذي قضى فيه ثمانية عقود حتى صار كأحد أعمدته التي تشير إلى تاريخٍ طويلٍ يتجذّر في ذاكرةٍ حيّة تعجز عن محوها صروف الدهر و الأيام .

 

استيقظ سكان البلدة القديمة في نابلس على أصوات الجنود الصهاينة و هم يتسلّلون لواذاً إلى قلب حيّ القصبة في البلدة ، و اتخذوا مواقعهم في المنازل و على الأسطح و بين الأزقة يرقبون كلّ حركةٍ تدلّ على الحياة و بدأت عمليات الدهم و التفتيش و اقتحم الجنود منزل المواطن خالد الظاهر حين استيقظ الحاج بلبل على أصوات الجنود أو لربما لصلاة الفجر ، لقد كان مجيئهم في قلب الليل هو الإيذان بقرب الصباح ، حيث تقول زوجته إنّه قد اعتاد القيام باكراً و الوضوء و صلاة ركعاتٍ قبل الفجر .. في حين يقول بشار إنّ والده يختار النوم في الغرفة القريبة من الشارع بحثاً عن الهواء و الجوّ الرطب في أيام الصيف قبل أنْ ينهض عن سريره في تلك الليلة ليغادر الغرفة بعد سماعه أصوات الجنود الصهاينة و إطلاق الرصاص ، غير أنّه لم يكنْ يعلم أنّ مغادرته للغرفة التي ينام فيها جريمة لدى المحتلّ تستحقّ أنْ يُرمى بالرصاص .

 

أحصى سكان الحيّ و المجتمعون من الناس و الصحافيّون الذين حضروا في اليوم التالي أكثر من عشر رصاصاتٍ تركت بصمات الموت في أرجاء الغرفة المختلفة ، آثار الدماء كانت شاهداً جديداً على بشاعة جريمة يرتكبها جنودٌ مدجّجون بالخوف و الخسّة بحقّ عجوزٍ حاول أنْ يبقى على قيد الحياة ، الدماء في كلّ مكانٍ على السرير الحديديّ القديم ، و على ما تدلّى منه من بطانياتٍ كان قد أعدّها ليأوي إليها إذا دهمه البرد فجأة ، بقعةٌ أخرى بقيت على مرمى البصر على أرض الغرفة تدلّ على إمعان الجزار في جريمته ، كمية الدماء المهروقة في كلّ مكان تدلّ على تأخّر إنقاذ الشهيد البلبل ، لقد منعوا الإسعاف من الوصول ، عرقلوا الطواقم الطبية و احتجزوها لساعاتٍ قبل إنقاذه ، و حتى أفراد عائلته لم يستطيعوا الوصول إليه ، حيث يضيف أحد أبنائه : "عندما سمعت صوت الرصاص شعرت أنّه يُصوّب على بيتنا ، لقد كان من الواضح أنّ الجنود المتمركزين في بيت الظاهر القريب يطلقون النار على غرفة أبي ، توجّهت فوراً للغرفة و لكنّي لم أفعل شيئاً" .

منع تطاير الرصاص في الغرفة بشار من دخولها رغم إدراكه أنّ والده قد أصيب ، و كرّر المحاولة مراتٍ و مرات ، و في كلّ مرّةٍ كان يتعرّض للرصاص فيعود من حيث أتى إلى أنْ انسحب المحتلّ من قلب البلدة حين تمكّنت عائلة الشهيد من دخول غرفته لتجده جثة هامدة فوق سريره .

 

وصل الإسعاف و أخذ الجثّة للمستشفى غير أنّ الجنود الذين كانت بقاياهم تهمّ بالانسحاب آثروا أنْ لا يتركوا فرصةً يثيرون النقمة فيها عليهم إلا و اغتنموها ، أصرّوا على منع الإسعاف من نقله و لم يسمحوا لها بالمرور و التوجّه إلى المستشفى إلا بعد منع ولده من مرافقته رغم علمهم أنّ هدفهم المنشود قد صار جثة هامدة .

استشهد البلبل و سواء كان قد غادر فراشه استعداداً للصلاة أو تجنّباً للرصاص ، فقد بقيت عيناه تطلّ من صورته المعلّقة على الجدار لتزرع في قلوب الناظرين إليه معنى التحدّي و عنفوان الحياة التي تبدأ و تنتهي دون أنْ تأبه لقرار الرصاص .

 

 

أضف تعليق
تغيير الصورة
تعليقات الزوار

1

فتحي البلبل، فلسطين نابلس
انا احد احفاد الشهيد فتحي البلبل وها قد مر خمس سنوات على استشهاده اتمنى بان تدعو له فالشهاده منزله عظيمه عند الله
تصميم وتطوير: ماسترويب