ليلة سقوط نابلس
عدد القراءات: 1703

من الطبيعي أن تعشق المكان الذي ولدت فيه، ولكن أن تتضاءل مساحة المكان المعشوق يوماً بعد يوم، فذلك هو الموت بعينه، عشقت مدينة نابلس منذ طفولتي، وعشقتها أكثر كلما غبت عنها، وحق لي ذلك، كما حق لكل من عرف هذه المدينة، بأهلها البسطاء، وبلدتها القديمة التي تضرب جذورها عميقاً في التاريخ.

 

 تسقط المدن كأوراق الشجر في الخريف واحدة تلو الاخرى، ولكن هذا السقوط جاء في الربيع، يا لسخرية الاقدار، في موسم تفتح الزهر، ُتغتصب مدينة نابلس على مرآىً من العالم، وقد نعذر هذاالعالم الصامت الفاقد لقدراته على الكلام، او على الاحتجاج، رفضت تصديق ما رأيت وما سمعت، فقد إجتاح الغزاة مدينتي، غزاة جاءوا من بعيد، من بلاد الصقيع والبرد الدائم، جاءوا الى بلاد المياه الدافئة، جاءوا بكل ما في الارض من حقد وكراهية، ليصّبوا حقدهم على التاريخ والتراث والفقراء.

 

وما هي إلا ساعات، حتى ُانتزعنا من فراشنا، لنصبح لاجئين في بيوتنا، واصبح هؤلاء الشقر والسود والملونون هم أسياد البيت، ونحن الضيوف، ضيوف غير مرغوب بهم، أو ضيوف ليست لهم حقوق الضيف، قاموا بزجّنا في غرفتين صغيرتين، كنا ثلاث عائلات وثلاث طالبات جامعيات، فرض الغزاة علينا ان نعيش سوياً لمدة أسبوع كامل من القهر والتعذيب، وقاموا بإحتلال منازلنا بحجة " حربهم ضد الارهاب" أي حرب وأي إرهاب!!، وبقينا ننتظر منقذاً يأتي من بعيد، ولكن طال إنتظارنا، فلم يتحرك الضمير الانساني، ولا منظمات حقوق الانسان ولا حتى حقوق الحيوان، كنا مجموعة من الرجال والنساء والشبان والاطفال والشيوخ المرضى، لم يعترف بنا الاحتلال كأسرى، بل نحن أسرى لا يعترف بهم كأسرى، ومعتقلون في بيوتنا، دون أن يحق لنا التحرك بين هذه البيوت، بل لا يحق لنا ان نتكلم بصوت مسموع ، كان جنود الاحتلال يعاملوننا على أننا أشياءاً لا أكثر، هم وحدهم أصحاب الحق الطبيعي في الحياة، في حين أننا لم نرتق في نظرهم للتمتع بهذا الحق، نحن" مخربون"، ويجب أن "نعاقب"،

 

لم نأخذ معنا من منازلنا أي شيء، إذ منحنا المحتلون بعض الاجزاء من الدقيقة للنزول من البناء، حملنا الاطفال الصغار وهرولنا الى الاسفل في جو بارد، لم يخطر ببالنا ان رحلة العذاب هذه ستستمر اسبوعاً كاملاً، كان والدي أكثرنا صبراً وتحملاً رغم وضعه الصحي السيء، إذ طالما كان يقول لنا أن ما حدث يذكره بيوم الرحيل في نفس التاريخ من شهر نيسان عام 1948، حين خرج واشقاءه من منشية يافا ولم يعودوا حتى الآن، بقينا نصغي الى صوت عشرات الجنود وهم يستبيحون منازلنا، ويعبثون بممتلكاتنا، ويستمتعون بنعمة المياه التي حرمونا إياها.

 

في ليلة لن تنسى ما حيينا، دخل المحتلون علينا، كنا كأكوام اللحم مبعثرين هنا وهناك، وجاءوا الى شقيقي الاصغر، وأخذوه معهم، حاولنا ان نسألهم عن وجهتهم، لكنهم لا يستطيعون التلفظ بألفاظ أقل فظاظة من كلمة : "إخرس"، يا لها من ليلة ، لقد ذهبوا وأخذوا شقيقي أمامهم، كنا نسمع إطلاقاً مكثفاً لنيرانهم، لقد أخذوه درعاً بشرياً لاقتحام أحد الاحياء في البلدة القديمة، وعندما شعر بهول الموقف الذي أخذه المحتلون من أجله، إنهار أرضاً وصرخ كثيراً ولكنهم ضربوه كثيراً وهددوه بالسلاح أكثر، أطلقوا بجانبه عشرات الرصاصات لايقاع الرعب في قلبه، فذكر الله، وأدرك ان لا ملجأ من الله إلا إليه، لقد إنتابته هذه الحالة فور إقتحام الجنود لمنازل في البلدة القديمة، وإنهار عندما سمع صوت بعض الشبان يتكلمون العربية، حينها ، قفز أحد الغزاة على أكتاف شقيقي وبدأ بإطلاق الرصاص على مجموعة من شبان المقاومة الذين سقطوا ما بين قتيل وجريح، لم يذكر شقيقي الكثير عمّا رأى، لكنه يذكر أنه رأى الموت ورأى شهيداً او أكثر يسقط أمامه.

 

عاد الغزاة الى المنزل، وألقوا بشقيقي على باب الغرفة، كان مغشياً عليه، وفي حالة عصبية لم نره فيها قط، لقد كان قادراً على الصراخ بأعلى صوته ليكيل الشتائم اليهم، في حين أننا كنا جميعاً عاجزين عن أن ننبس ببنت شفة، لقد رأى ذلك الخيط الرفيع الذي يفصل الحياة عن الموت، وأدرك أن الموت أهون مما رأى، صرخ بنا جميعا: " إياكم أن يخرج أحد منكم معهم، سنموت جميعاً هنا ولكن ليس هناك، فلنقتل هنا”، وإنهار باكياً محطماً من هول ما رأى.

 

لقد فتح الغزاة ثغرة في خاصرة البلدة القديمة، وبدأت تسقط الحارة تلو الاخرى، وبدأ جنود الاحتلال يحضرون المعتقلين الى ما كان سابقاً بيتنا، سمعناهم في تلك الليالي القاسية وهم يصرخون ويستغيثون، كان المحققون يضربونهم على مسمع منا، ويحققون معهم تحت التعذيب، وكنا في حالة من الرعب الشديد، لقد أطلقوا النار على أحد الشبان المعتقلين، ثم جاءوا الينا لنحمله لانه ثقيل الوزن، كان ينزف ويرتجف ويتمتم قائلاً: " يا الله" ، وأخرجناه الى الدبابة التي ذهبت به بعيداً.

 

كنا سبعة عشر مواطناً، يعيشون الموت في كل لحظة، لم يسمح لنا المحتلون أن نغلق باب الشقة الصغيرة على أنفسنا، وفي يوم آخر، تعرض المحتلون الى إطلاق نيران مفاجىء، فقاموا بإطلاق القذائف على كل مكان، وبدات مدفعيتهم بضرب أماكن متفرقة، ولكنها ركزت ضربها على منزل جيراننا، حيث قامت بهدم المنزل وعدة منازل مجاورة، مخلفة عدداً من الضحايا، ولم نعلم بهذه الانباء الآ بعد اسبوع، حيث صمدت تلك الاسرة في غرفة تحت الارض الا ان فارق معظم أفرادها الحياة.

 

لم يكن الطعام وافراً، وأضطررنا الى الاكتفاء بوجبة واحدة في اليوم، لم تكن تكفي لسد الرمق، فقد رفضنا هداياهم، تلك الهدايا التي كرهناها، واصبحت تذكرنا بهمجيتهم وعدوانيتهم، لقد إقتنعنا جميعاً أنهم بشرمن نوع آخر، ولكنهم ليسوا بشراً مثلنا، إنهم يعتقدون أنهم يمارسون طقوساً لا تختلف عن أفلام سينما العنف الامريكية، هم في نزهة دموية، لكنها مخططة جيداً.

 

وبعد اسبوع كامل من التشرد، وبعد أن أصبح أغلى ما نحلم به هو العودة الى منازلنا في الطوابق العلوية، بدأ الغزاة بجمع امتعتهم وسلاحهم، لقد أضطروا الى ترحيل كميات ضخمة من العتاد والامتعة التي جلبوها، لقد جهزوا أنفسهم لحرب طويلة جداً، ولكن آن الاوان أن نعود الى بيوتنا، وآن الاوان ان يرحل الغزاة الى غير رجعة.

 

 وفي تلك اللحظات، تزايد الامل لدينا بالعودة الى منازلنا، إذ شعرنا ان الغزاة راحلون مهما طالت إقامتهم، وسمعنا أصواتهم وهم يهرولون الى دباباتهم، تذكرت ومن معي كلمات لشاعرنا الكبير محمود درويش وهو يصرخ بهم قائلاً: فأخرجوا من أرضنا، من بحرنا، من ملحنا، من جرحنا، وخذوا حصتكم من دمنا، واخرجوا، من كل شيء فأخرجوا، من كل شيء فأخرجوا، آن أن تنصرفوا.

 

وإنصرفوا.

 

 ما أحلى الرجوع الى الحياة الطبيعية، بدأنا نشق طريقنا الى منازلنا بين أكوام من نفايات مخلفاتهم، ولما وصلنا الى منازلنا الذي أقنينا عمرناً في ترتيبها لتكون جميلة ومرتبةً، فوجئنا من هول ما رأينا، كان المغول هنا، لا بل التتار، ربما أكثر، إنهم النازيون الذين لم يحترموا حقاً لانسان في الحياة الطبيعية، تألمت عندما رأيت الدماء على الارض والجدران، وتحسرت كثيراً عندما شاهدت أجمل الكتب التي قرأتها وكانت بمثابة الاصدقاء القدامى، شاهدتها في الحمام مغطاة بقذاراتهم، شاهدت كل شيء في حالة تلف شديد، أحقاً كانوا بشراً؟ أشك في ذلك، لقد خرقوا الجدران للانتقال الى بيوت الجيران، ودمروا بيوتا كثيرة لا تبعد عن منزلنا سوى أمتار، لا لشيء الا لانهم تعرضوا لاطلاق النيران من هذه البيوت المجاورة، لم يكن المحتلون يكتفون بإطلاق الرصاص على مصادر نيران المقاومة، بل كانوا يردون بإطلاق الصواريخ والقذائف.

 

كنت قد إعتدت أن اقوم بتسجيل بعض المسرحيات من الادب الانجليزي على شرائط كثيرة، أحببت هذه الفكرة منذ سنوات، وقمت بتسجيل مجموعة نادرة لمجموعة كبيرة من هذه المسرحيات وغيرها من الموسيقى الكلاسيكية، وكم كان ألمي شديداً عندما رأيت عشرات الاشرطة قد أتلفت، هذا فضلأ عن كتبي التي لم افهم حتى الآن مبرراً لتدميرها سوى أن هذا العدو كان قد جاء لتدمير كل شيء: الارض والانسان والتاريخ والذكريات والوجود الفلسطيني على هذه الارض، ولكن شاعرنا الكبير لم يترك شيئاً إلا وكتب فيه إذ قال :

نار على العرش

وعلى التل زعتر

كلما توغل النصل في الروح

أحببتك يا وطني أكثر

أضف تعليق
تغيير الصورة
تعليقات الزوار

1

سوزان، نابلس
اه من الغربة كم كنت احلم ان اعود الى مدنتي الحبيبة وعندما جائة حلمي ليتجقق جاء الاحتلال واجتاح المدينة حدت هاذا في سنة2004 كم ذهلت لما رائيت مدنتي الحبيبةتتدمردمار كلي كم تمزفت على اابناء مدنتي لا بل شعبي كم بكيت على اطفالنا كم قهرت على حرمانهم من حقوقهم اها ما اصعب الظلم اتمنى من الله النصر وان طال الزمان

2

شروق، نابلس
نابلس ياجبل النار نابلس كل الاحرار نابلس كلنا بنحبك نابلس وحنفضل جنبك موتني اني اديش بحبك يانابلس ولله اي مشتائتلها ولله الغربه بتهد نابلس واحنا فيها بنحبها وبنموت علا ترابها كيف لما نكون بغربه وبنبعد عنها

3

شروق الشنار، نابلس
نابلس ياجبل النار نابلس كل الاحرار نابلس كلنا بنحبك نابلس وحنفضل جنبك موتني اني اديش بحبك يانابلس ولله اي مشتائتلها ولله الغربه بتهد نابلس واحنا فيها بنحبها وبنموت علا ترابها كيف لما نكون بغربه وبنبعد عنها

4

FOUR RED DAWN، نابلس
نابلس أكبر وأحلى مدينة في فلسطين بالنسبة النا وبتمنى ومنتمنى من أهلها انو يدافعوا عنها واحنا منحييها ومنحيي أهلها الصامدين.

5

امين، نابلس
نابلس ما زالت وستبقى جبل النار - ويا جبل ما يهزك ريح

6

اسال، نابلس
نابلس ـ جبل النار مدينة الشهداء , نعم انني بعيد لاكنك في القلب . كيف انسا احبائي واهلي واصدقائي كيف انس الايام الجميلة التي عشتها كيف انس شموخ جرزيم وعيبال كيف انساالبلدة القديمة بلدة الاجداد بلدة الصمود والتحدي ,,,صبراً يا احبائي في مدينتي الحبيبه لن يطيل الاحتلال هكذا كنت أقول لأصدقائي واحبائي وأنا موجود في زنازين الاحتلال عندما حكم عليه بالسنتين والنصف لابد لباب الزنزانة ان يفتح والحمدلله لله فتح بعد انتظار 25 شهراً والاحتلال سوف يزول ...لا محال ,,واقول الى الاخت سوزان سوف يشرق فجر جديد وتشاهدي نابلس وهي شامخة بجبالها بإذن الله والى كل محبين نابلس /ابن فلسطين /من مدينة جبل النار .

7

نايف عاشور، نابلس وحاليا في الأردن
ستبقى جبل النار امننا الحنون مهما أبعدنا عنها سيأتي يوم ونأتي لا محال وأحلف برب العباد عندما أوصلها سأقبل ارضها ونصيحة لكل نابلسي ان لايتخلى عن شبر من هذه الارض وسأعوووووود بإذن رب العباد

8

انتماء للوطن، نابلس حاليا بدبي
انني اعشق نابلس وانا لم ارها الامره واحده منت في السابعه من عمري ولكنيي اشعر باْنهار من الشوق اليها اصمدو يا احبائي لانكم انتم الصامدون انتم من نرفع بكم تللك الرؤوس اقسم انني احترق شوقا اليها احموها كونو انتم من يحميها اصمودا انا النصر ات ونحن معكمةهناك المسافات البعيده لكن حبها بالقلب هو الذي يقربنا ونحن نقف لكم وقفه اجلال واكبار لكل فرد لكم

9

كمال غازى ابوضهير، جدة - السعودية
انا اعيش وولدت فى جدة ولم ازور نابلس مطلقا واتمنى ان ازورها مع كامل اسرتى قريبا انشاءاللة . وكم تأئرت لما كتبة ابن العم علاء عما عانوة من ظلم على يد المحتلين ولكن اقول لاهلى فى نابلس اصبرو ان اللة مع الصابرين - ولا بد ان يأتى اليوم حتى نرى كافة المدن الفلسطينية ومنها نابلس محررة تماما - وبارك اللة فيك يا علاء
تصميم وتطوير: ماسترويب