علـى اللـــفـــــة
عدد القراءات: 1632

 

قبل عشرين عاما وعندما كنت اذهب لبيت جدي"  ابو نزيه " ...الكائن في (رفيديا)  كان جدي يأتي إلى منزله مرتديا الزي النابلسي القديم ...القمباز ويضع عمامة بيضاء أو ما يطلق عليها " لفة " على القبعة  الخمرية... وكنت اسأل والدتي وقتها ... لماذا يرتدي جدي هذا اللباس ولا يرتدي مثل الرجال في الشارع ؟؟؟  كانت تقول لي ان جدك يرتدي تراث أبيه وجده وهو يلقى احتراما أكثر بهذا أللباس أما اللفه فكنت اسأل جدي عن سبب وضعها ، ليجيب دائما "عشان تغطي الصلعة "  وكنت ارد بسؤال آخر لماذا لا تكتفي بالقبعة الخمرية فقط بدون وضع الوشاح الأبيض ليجيب لتثبيتها على الرأس ولا تطير من الهواء ... وتبقي لفة جدي محفورة في ذاكرتي  منذ الطفولة لتتردد على مسامعي  هذه الأيام في ايام متفرقة في طريق  عملي في جامعة بيرزيت لمعناها المختلف تماما و يرددها السائقون والواقفون في الطابور الفوضوي  على حاجز حواره العسكري .

فاللفة  في هذه الأيام لا تشبه لفة جدي الناصعة  البيضاء التي تقيه من الرياح والأمراض والغبار ومن برد الشتاء ولهيب  الشمس ....إنها تأخذ طابعا آخر ومعنى أخر ... ولا يدرك معناها الا من عايشها ودخل في معمعانها ...فكلتا أللفتين لهما تأثير على الرأس مباشرة فلفة جدي تقيه وتحميه  من الأمراض البشرية ... أما لفة  الطرق الطويلة والوعرة للوصول للعمل فهي مرهقة ومتعبة وقد تؤدي بك الى ضربة شمس ...ففي اللفة تضطر الى سلوك طريق " صرة - تل  " وطريق " عقربا "  ولفة طريق "  المجدل " وطرق " بروقين "والوصول الى " الطيبة " و" سلواد "  و " جفنا "  او"  الجلزون "  او سلوك طريق معبر قلنديا ومن ثم الى  بيرزيت ..وتستغرق الطريق في أحسن الأحوال ساعتين  وفي أسوئها تستغرق ثلاث ساعات  في سيارات الفورد البرتقالية او المرسيدس ...فيما  تهتز رؤوس الركاب  وأجسادهم يمنة ويسرة مع كل حفرة او خندق او مطب  ...وتزداد الإبتسامات والنكت احيانا على هذا الوضع المأساوي  الم يقول المثل  " شر البلية ما يضحك "  يتمم أحد الركاب ويقول "  طولوا بالكم  يا جماعة الطريق طويلة   وما النا غير ربنا " .

يبدو ان مفهوم التعايش والرضوخ للأمر الواقع  بدا يظهر بشكل جلي على السائق والركاب فوضع الحزام الآمان من شروط الرحلة والاستشارة الجماعية لسعر الرحلة الجزء الأهم مع طول الطريق وارتفاع كلفة المحروقات اضافة الى كلفة المخاطرة بهذا السفر المحظور في ظل اغلاقات امنية مشددة وحظر للتنقل والسفر لأهالي المحافظات الشمالية ...يصرخ السائق  " اللي مش موفيه معاه الله معه يورجينا عرض كتافه قديش " يرفع أحد الركاب يده ويقول  موجها كلامه للسائق ولركاب "  يا عمي من اولها نتفق من أي طريق بدنا نروح " .

 كنت قبل أشهر قد كتبت مقالة بعنوان  " الشمس في يوم محاصر "  حول الحصار وإغلاق حاجز حواره كان  الركاب وقتها  من الدراويش البسطاء الذاهبون لأغراض شتى أو  لأداء مهمات او اعمال  معينة، اما ركابنا هذه المرة فهم من الموظفين والمدرسين بالجامعات الفلسطينية من حاملي درجة الماجستير أو الدكتوراة  اي النخبة الفهمانة من الشعب يرتدون زيا رسميا بامكانك الإستدلال من خلاله على مهنة او وظيفة  الشخص    ان كان من موظفي البنوك او من  المعلمين  او حتى موظفا عاديا ممن رمى به القدر الى رام الله بعيدا عن أسرته وعائلته ... اما الموظفات فتجدهن لا يبالغن في الزي ...الوان داكنة مع إكسسوارات خفيفة وعطر فواح ، وفي الغالب لا تنطق النساء ببنت شفة خلال الرحلة  مادام الرجال قوامون في الشورى بينهم ...ولكن ما يوحدهم جميعا هو  الشنط السوداء للرجال او الملونة للنساء .

ليعاود السائق السؤال أي الطرق اسلك ؟؟؟ ليرد احدهم طريق " عقربا " ...ويصرخ اخر  طريق "  بروقين "  ... فيما يقول شخص ثالث  خلينا نجرب عن " حاجز زعترة "...كنت اجلس في الكرسي الأمامي بجانب السائق الذي استشاط غضبا وقال "  اتفقوا بينكم "  ويرد الدكتور ذو الياقة الملونة صاحب الرأي السديد  وبصوت عالي وبدون اي  اعتبار لأراء الركاب  ويقول بكل ثقة خليك على طريق بروقين ...ويتراجع السائق  ليسلك الطريق كما أمر الدكتور ... كنت أتوقع أنني الأنثى الوحيدة في السيارة لاكتشف ان هناك فتاة أخرى في المقعد الخلفي  كأنها مربوطة لا تقوى على الحراك او حتى التكلم امام الركاب الذكور ...عندما وقفنا على حاجز " صرة "  لينزل الركاب ونتعرف على وجوه بعضنا البعض كل بطريقته الخاصة  ويتحدث السائق والدكتور مع الجندي ويبدأون بالضحك بصوت عالي  ونشاكرهم الضحك   دون ان نفهم ماذا يجري  من حديث ...ويبدأ الجندي  بالمزاح ويسأل مين  رنا فيكم  ؟؟؟  لنرد بكل جدية وبصوت واحد... أنا أنا ،  يتمتم بالعبرية ...ونبادر بالقول أننا نريد الذهاب إلى احدى القرى ونحن فريق طبي ...ويسمح لنا بالمرور وتواصل السيارة الرحلة اليومية وتسلم الجرة هذه المرة ... ويفتخر الدكتور برايه السديد...ويقول"  مش قلتلكم"  يحرك السائق  مفاتيح الراديو على راديو صوت إسرائيل لتصادف موعد النشرة الإخبارية الصباحية والتي ذكرت في خبرها ألأول  ان هناك طوقا امنيا مشددا اثر العملية التفجيرية  التي قام بها فلسطيني فيما جنود الإحتلال  وألياته تنتشر بكثافة  على جميع الطرق والمداخل .

يواجهنا في الطريق  حاجز طيار آخر... أوقفنا أحد الجنود ويبدو في العشرينات من عمره  وقال للسائق بلكنة عربية ركيكة  " ممنوع الدخول الطريق مغلقة  لف سيارتك وارجع "  ليرد الدكتور"  ولا يهمكم شباب بنلف على طريق ثانية "  ونبدأ باللاتفاف ليغمز لنا احد السائقين بسيارته "  الطريق هذه مغلقة "   ليرد الدكتور " خلص خلص لف عن طريق بروقين "  ونبدأ  من الصفر من جديد  أي بداية طريق حوارة وليمضي  الوقت فيما تصبح الساعة السابعة والنصف صباحا . وفوق هذا الجو المشحون والمتوتر والتوقعات ان لا نصل رام الله  او نصلها متأخرين  ،  يبدأ صاحبنا الدكتور ذو الرأي السدي بالتأفأف  والشكوى والأحاديث الجانبية عن المعاش الذي لم يقبضوه منذ شهرين وعن ما آل إليه الوضع على المستوى الشخصي من الأسرة ومتطلباتها والزوجة والمواسم الاجتماعية وتغير الموسم من الصيف إلى الشتاء ومتطلبات الحياة اليومية  وتغير السلطة الحاكمة من فتح لحماس ومزايا السلطة القديمة والتوقعات المستقبلية والتوقعات السلبية ...أقول في سري  اذا كان هذا الدكتور يشكي فمن أجبره على أن يكون دكتورا ...

ونعاود الكرة عن  طريق " بروقين "  لنجد ان الطريق يعترضها حاجز كبير يملؤه السيارات والباصات ليخرج الركاب وللمرة الثانية على التوالي من السيارة ولابقى في السيارة وليعرض علي احد الركاب النزول وبعد تردد وتفكير وجدت جميع  الركاب يتجهون بزيهم الرسمي للجبل ويسيرون على اقدامهم  ...قلت في نفسي  " يا ويلتي اجى وقت المشي الكعيبي على الجبال "  وتجمع الركاب  حول مجموعة من الاعشاب البرية واصبح كل واحد منهم يلتقط منها ما لذ وطاب ...سالت الرجل الذي دعاني للخروج من السيارة اتعرف اسم العشب الذي ياكلوة قال انه  " خرفيش  " وهو طيب المذاق ...  ولفت نظري نبتة بنفسجية جميلة تحيط نفسها يالأشواك كانت  تنتشر بكثافة هنا في هذا الموسم من السنة سالت عن أسمها لكنه قال لا ادري ...تذكرت ذاك الراعي الذي كان يقطع هذة النبتة بموسه الحاد اللامع ويظل يطعمنا ويتحدث معنا بجانب الأرض المليئة بالعشب الأخضر والأنواع المختلفة من الأعشاب البرية ، وبعد ساعة بدأ الموظفون من الركاب يتسللون كل بطريقته لقطع الحاجز بدون ان يروهم الجنود من اعلى الجبل من الأسفل وأما أنا وفتاة أخرى شجعتني للمرور لقطع الحاجز من أمام أعين الجنود وقلنا لبعضنا عمرك ارتديت طاقية الإخفاء فلنرتديها الآن ونجرب... اذكر تماما ان الخطوات التي قطعتها تمثيليا مع تسارع دقات قلبي كانت تشبه خطوات حلقات مسلسل  "  جمس بوند"  في احدى مغامراته .

تنفسنا الصعداء بعد ان قطعنا الحاجز بنجاح ... وكنا امام خيارين اما ان نعطي السائق الأجرة او نركب بسيارة أخرى ...فقمت بإرسال أجرة تقديرية على الذمة والضمير للدكتور ابو الخطط الفهلوية وإرسالها للسائق  لان حاجياته نسيها هناك  بالسيارة . ولم تنتهي رحلتي مع الدكتور تغير بعض وجوه الركاب في الرحلة الثانية بينما بقي وجه الدكتور الذي لم يكف عن الاستمرار بإعطاء نصائحه وتوجيهاته  حول أي طريق نسلك وللصدفة أن السائق من بلد الدكتور فالحديث أصبح حديثا جماعيا واجتماعيا ومفتوحا أكثر  فهو رجل خطابي هو يحكي ونحن والسائق نسمع تحدث بعدة مواضيع منها إنتاج موسم الزيتون من العام الماضي والإنتاج المتوقع هذا العام وما تقوم بة نسوة بلدهم من ضرب الزيتونة اثناء جدها لتقول لها " مش ما تحملي سنة الجاي"  ، يوقفنا سائق  إحدى سيارات الأجرة ليسأل سائقنا "  قديش بدك تأخذ من الركاب على اللفة " ؟؟

نمشي طريق غريبة لم اعرفها من قبل ...فالسفر في هذه الأيام يعرفك بتضاريس وجغرافيا الوطن ... ونقطع طرق خطرة ضيقة تارة وترابية وصخرية ...ويحالفنا الحظ اذا سارت السيارة على طريق اسفلت لكنها تكون عادة  مليئة بالحفر والمطبات ..

لا أدري ما الذي خطر ببالي ثانية عن لفة جدي حين كان يخلعها حين يذهب للحمام التركي في مدينة نابلس حين كان يقوم بالاستحمام  وما تصحب أجواء الحمام من البخار الساخن وبعدها التدليك أو المساج الذي يقوم بعمله احدهم لجلسات الاسترخاء في نهاية الأسبوع ...في هذا المشهد وعند تصاعد غبار الأتربة البيضاء والترابية وتحرك السيارة بالركاب يمنة ويسارا وزحزحة أجسامهم إجباريا .

تقترب السيارة من حاجز "  عطارة  " حاجز طويل ملئ بأصوات الزوامير لأنواع سيارات مختلفة ...وصاحبنا الدكتور لا زال يواصل نصائحه وتوجيهاته  "  شباب شو رأيكم ننزل مشي ولا نستنى  " و كانت شارفت الساعة على العاشرة كنت أقول في سري ليتني أعود فقد مضى على الدوام ساعتين ماذا سأفعل اليوم بعد كل هذه المعاناه ...

اما اللفة الثانية فهي في يوم آخر وتستمر لأسبوعين تحت شعار لا يأس مع الحياة ولاحياه مع اليأس المشهد المضحك المبكي بتزامن زخم الأخبار لمختلف المواضيع واللفة هذه المرة عن طريق أريحا القديمة ويسمونها  " السحسيلية " لأنها فعلا تشبه "  السحسيلية " الخاصة بالعاب الأطفال لكنها خطرة جدا ... في هذا المشهد فان التطوع جزءا مهما في هذه الرحلة ... من ينزل الجبل ليكشف الطريق  ؟؟  وان أراد ان يقضي حاجته أو يدخن فنحن الركاب ملزمون  بالانتظار وينزل المتبرع او المتطوع راكضا ليعطينا أشارة   ونحن رهن اشارته ولكن " كعيبي لأنو السيارة ما بتتحمل  "  وبما ان الجبل علية أحجار وصخر وغير مستوي فالمشي علية بحاجة إلى التمهل تماما كما كان جدي يخرج على مهله من الحمام التركي مطقطقا بسمباطة الخشبي خائفا من التزحلق ... ورحم الله من كان يرتدي الحذاء  السبور أما الرسمين والكعوب العالية فالله المعين

ليقول احد الركاب في منتصف الطريق "بنفع نعمل دعاية لأحسن أنواع السيارات أو لشركة مرسيدس الألمانية " استغرب الركاب حين رأوني التقط صورة سريعة للجبل الأمامي وليس للجبل نفسه الذي نقطعه  أو لشخوصهم   لابتسم وأقول اللفة ما بتتصور ........... الله يرحمك يا سيدي قديش كنت معتز بلفتك.

 

أضف تعليق
تغيير الصورة
تعليقات الزوار

1

علاء، نابلس
والله اعجبتني القصة يا اخت رنا واللي رجعتنا لايام زمان، اتمنى منك المواظبة على الكتابة في هذا الزمن الرديء.

2

عبد السلام عوض الله، غزة
مرحبا رنا أدخلتي الي قلوبنا جميعا الإعجاب بهذه المقالة وانا اعرفك جيداً انكي تثبتي لنا يوما بعد يوم مدى تألقك وابداعك ليس في مجالك العلمي وحسب بل وفي جوانب ابداعية شتى أتمنى التوفيق لكِ
تصميم وتطوير: ماسترويب