موزاييك امريكي
عدد القراءات: 2130

 

 

بقلم: علاء ابو ضهير

 بينما كانت الطائرة تخترق سحاب مدينة نيويورك وتقترب من التراب الامريكي بعد عبور المحيط الاطلسي، شاهدت منظراً غاية في الروعة لمساحة شاسعة من الاضواء المبهرة التي تشبة الثريا او العقد الذهبي الجميل المتشعب التفاصيل، يا إلهي كم استغرق هذا المجتمع في بناء هذه المدنية والحضارة! ربما كان الخوف على هذه الرفاهية وهذا الانجاز الحضاري دافعاً وراء الخوف الدام على هذه الامتيازات وهذا الجمال الذي قل ان ينافسهم به احد آخر.

 

آلاف المباني الضخمة التي تعانق السماء وتناطح السحاب تنتشر على مساحات شاسعة من الارض، هذه الارض جديدة، وربما كان هذا سببا في تصميم مدنها ومبانيها بالشكل الذي نراه، تم بناء كل شيء خلال مائتي عام تقريباً، في حين كان الماضي عائقاً امام العديد من دول العالم الغربي الاوربي في مواجهة العصرنة والتحديث، وهو ما تتفوق فيه الولايات المتحدة الامريكية على نظرائها في الغرب، بلد جديد لا يقوم على أعباء الماضي بمقدار ما يقوم على المصالح المشتركة والمنافع المرتبطة بالحاضر والمستقبل، اقول ذلك وانا لا ازال اسمع قومنا وهم يتغنون بامجاد العرب في الماضي الذي عجزنا عن اعادة انتاجه كما عجزنا عن إيجاد مكان لائق لنا بين الامم.

 

لقد مرت الولايات المتحدة الامريكية بظروف تاريخية استثنائية وغريبة بعض الشيء، وقد لا تتشابه في ظروف بنائها مع البلدان الاخرى، اللهم الا مع الكيان الاستيطاني في فلسطين. يصعب تعريف امريكا والمجتمع الامريكي بكلمات قليلة، انها بلد يجمع في توليفة غريبة بين العلم والتكنولوجيا والثقافة والتعليم والحركة الاجتماعية والجهل بقضايا العالم، كما تجمع بين الصراع الداخلي والرغبات المتزايدة، توليفة لا يمكن فهمها بسهولة. من الصعب جدا تعريف ما هو امريكي او تعريف مفهوم الاستيطان في الادبيات الامريكية.

 

ان التزاوج والدمج بين الاعراق والثقافات والالوان هو الغنى الحقيقي لهذا البلد، هذا الغنى الذي يعكس نفسه في الموسيقى والطعام والسلوك والادب وغيرها من الامور التي تزود المجتمع بالافكار والايديولوجيات التي تجعل منه مجتمعا يشبه الموزاييك في تلونه وغناه العرقي. يعيش في الولايات المتحدة الامريكية البيض والسود والصينيون والعرب واليهود والروس والمكسيكيون وغيرهم من اللاتينيين والاوروبيين واليابانيين وغيرهم من الاسيويين، وتتعايش عشرات القوميات الاثنية في ظل نظام سياسي واجتماعي استطاع رغم كل عثراته الحفاظ على هذا النسيج الاجتماعي بحكم ارتباط المصالح والمنافع. تقوم كل اقلية عرقية بالحفاظ على هويتها وثقافتها وموسيقاها الخاصة لتشكل مع غيرها من الاقليات مجموعة من اللوحات الفنية الفسيفسائية التي تشكل الموزاييك الامريكي الغني بثقافته، قد يعود فقرنا الثقافي والفكري الى عدم وجود الكثير من التنوع في حياتنا الاجتماعية والثقافية، فجميع سكان مدننا ينتمون لنفس المدينة منذ عصور، وفي حال دخل اليها أوعاش فيها بعض سكان المدن المجاورة، قام السكان الذين ينتمون لهذه المدينة او تلك بممارسة بعض التمييز العنصري ضدهم ويتم اعتبارهم قادمين جدداً، يا لها من ثقافة فقيرة تميز بين المدني والفلاح والمدني واللاجىء! متى سنخرج من هذه الشرنقة اللعينة وننظر الى العالم من حولنا!

 

 

ضخم، هي الكلمة الانسب لتعريف الكثير من الامور في الولايات المتحدة الامريكية، البلد ضخم، والوجبات الغذائية كبيرة ومشبعة، الريف شاسع، والمسافة بين المقاطعات ضخمة جدا، توحدت هذه الدول الخمسون لتشكل اتحاداً فدرالياً على الرغم مما بينها من خلافات اثنية وعرقية ولغوية احياناً، لتشكل القوة الاضخم في العالم، متى سيستيقظ عالمنا العربي الموحد في ثقافته وحضارته ومصالحه المشتركة ليشكل اتحاداً فدرالياً ينافس نظراءه الامريكي والاوروبي!

 

كان لنا لقاء مع المفكر والكاتب الفلسطيني رشيد الخالدي الذي تحدث الينا عن تاريخ القضية الفلسطينية وذلك بمناسبة نشر كتابه الجديد، القفص الحديدي، هذا الكتاب الذي يتحدث فيه للقارى الغربي عن كفاح الشعب الفلسطيني للحصول على دولته المستقلة والخلاص من الاحتلال، وبمناسبة الحديث عن الكتب، فقد لاحظت ذلك الاهتمام الشديد لدى كل من قابلتهم بالقراءة والمطالعة ومتابعة الاصدارات الجديدة للكتب وشرائها رغم ارتفاع ثمنها، من منا يدفع مئات الدولارات سنوياً لشراء الكتب! بل من منا يشتري الكتب اللامنهجية طيلة سنوات دراسته الجامعية! لقد أعجبت بذلك الاهتمام لدى العديد من اوساط المجتمع الامريكي الذين التقيتهم حيث تمتع الكتاب لديهم بمكانة كبيرة تفوق مكانة المنشورات الالكترونية التي طالما تحدثت عن اهميتها ومنافستها للكتاب الورقي، لكن يبدو انني كنت مخطئاً، إذ لا زال الكتاب يتمتع بمكانة مرموقة تنافس بل وتتفوق على الكتب الالكترونية المنشورة على المواقع الالكترونية. في تلك البلاد، يجتمع الناس على ابواب قاعات الورش الثقافية والعلمية كما لو انهم ذاهبون الى حفلة او امسية او عرض لفيلم سينمائي، فالثقافة غذاء الروح، وليس صحيحاً ان هذه المجتمعات الغربية تعاني خواءاً روحيا.

 

شاركت في مؤتمر الدراسات الامريكية في سان فرانسيسكو والذي استمر ثلاثة ايام، لهذا المؤتمر تقاليد وبرامج مختلفة عن نظيراتها في بلادنا، إذ شارك فيه عشرات بل مئات المتحدثين، لكنهم لم يجتمعوا في مكان او قاعة واحدة كما لم يكن للمؤتمر عنوان محدد سوى الدراسات الامريكية، وهي كلمة واسعة شاملة لعشرات المواضيع التي ُتعنى بكل ما هو امريكي، توزعت المحاور على قاعات فندق الماريوت الكثيرة والمنتشرة في طوابقه المتعددة، تطرق بعض المتحدثين للتاريخ وتحدث بعضهم الآخر عن السياسة والاعلام في حين تحدث آخرون عن الحقوق المدنية، الحرب، الحركات النضالية في الولايات المتحدة وخاصة السود والمكسيكيين وغيرهم من المواطنين من اصل لاتيني والاقليات العرقية والمصالح الاقتصادية مع دول العالم، وتفرعت الجلسات لتتطرق الى عروض خاصة ببلدان امريكا اللاتينية واسيا والشرق الاوسط والمستشرقين وابحاثهم والمرأة ومقاطعة اسرائيل وغيرها عشرات المواضيع التي لا يستطع احد الالمام بها جميعاً، لذا كنا ننتشر على مختلف المحاور بناءاً على مجال اهتمامنا وتخصصنا.

 

ما لفت انتباهي هو التركيز على مشاركة المثقفين والاكاديميين والمهتمين بدلاً من السياسيين وهو المجال الذي نهتم به في مؤتمراتنا، إذ شاركت نسبة كبيرة من جامعات الولايات المتحدة الامريكية والعالم في هذا المؤتمر، كل حسب اختصاصة وليس حسب انتمائه السياسي، كما تميزت محاور المؤتمر بالانضباط في مواعيدها وإلتزام المشاركين فيها بالحوار الدائم مع المتحدثين وتوفر الاجهزة والمعدات اللازمة لكل محاضرة او عرض دون عجقات عربية او زفة ادارية او تقاعس خدماتي او مفاجآت مأساوية او درامية او حتى كوميدية كتلك التي نفاجأ بها في مؤتمراتنا التي نسميها بالعلمية. يجدر بالذكر ان هذا المؤتمر الذي تقدر ميزانيته بملايين الدولارات، لم يحمل اسماً كتلك الاسماء التي نلقيها جزافاً في مؤتمراتنا مثل: المؤتمر الاول لكذا وكذا بل على الرغم من تكرار عقد هذا المؤتمر بشكل سنوي الا انني لم اشاهد يافطة واحدة في قاعات المؤتمر تذكر رقمه او حتى اسم راعيه.

 

تعرفت خلال هذا المؤتمر على العديد من القضايا التي لم اغص فيها من قبل، كتلك المتعلقة بكفاح الافريكان اميركانز في سبيل حقوقهم السياسية، حيث تعرضت هذه الاقلية السوداء للاضطهاد والتمييز العنصري الذي لم تتعرض له اقلية اخرى، بل لا زالت تعاني من الكثير من أصناف التمييز العرقي، فوجئت اثناء مشاركتي في احدى الندوات التي نظمها اعضاء حزب الفهود السود وذلك حين شعرت ان نضال هذه الجماعة هو نضال شعب يعيش تحت الاحتلال الامريكي، شعرت بذلك حين شاهدنا فيلما عن الاضطهاد الذي تعرض له السود في الستينات والسبعينات حين كان يتم اعتقالهم وضربهم وتعذيبهم، كما اتضحت لي بعض الامور حين استمعت لزوجة مناضل ُقتل اثناء كفاحه للتحرر من قيود القهر الذي مارسته اجهزة الامن الامريكية ضد الاقلية السوداء، كما شعرت ان نضال هذه الاقلية يشبه نضالنا حين استمعنا لروايات نشطاء الحزب وذلك في حفل تم تنظيمه بمناسبة الذكرى الاربعين لتأسيس الحزب، حيث شارك العديد من شهود نكبتهم التاريخية في الحوار الذي جرى كما تحدثوا عن معاناتهم والظروف القاسية التي عاشوها طيلة فترة قهرهم وقهر اجدادهم عبر عقود العبودية الطويلة.

 

استضافنا بعضهم في متحف الافريكان اميركانز حيث شاهدنا نماذج من القهر والتعذيب التي لا تقل في قسوتها عن معسكرات الاعتقال النازية، شاهدت نماذجاً مجسدة لابناء القارة السوداء حين كان يأتي المستعمر الابيض على سفنه فيحاصر ويعتقل السكان السود من بيوتهم ومزارعم ويقيدهم بالسلاسل الحديدية تحت وطأة اطلاق النار والقتل والتهديد، يجمع المستعمر آلاف المواطنين الاحرار ويقودهم الى السفن التي تنقلهم الى الطرف الاخر من المحيط، الى القارة التي تم اكتشافها حديثاً، او بالاحرى الى القارة التي قام باحتلالها ومطادرة سكانها الاصليين من الهنود الحمر وقتلهم وتشريدهم ليقوم بدوره بالاستيلاء على ارضهم ومزارعهم ويتأفف بعدئذ من مد يده وزراعة الارض وفلاحتها، فإستعمل ما لديه من منجزات الثورة الصناعية وتوجه الى القارة الافريقية حيث استعمل البارود والنار ليجبر اهلها على العمل كعبيد لدى سيدهم الابيض، فزرعوا الارض وعاشوا في ظروف يندى لها جبين البشرية، ظروف لا تقبلها حتى الكائنات غير البشرية، تم وضعهم في السفن في ظروف سيئة وغير صحية، كان يموت الكثيرون منهم اثناء رحلة العذاب الطويلة باتجاه الساحل الآخر للمحيط، ناضل هؤلاء السود طيلة عقود وقرون في سبيل حريتهم واستمر هذا الكفاح حتى الآن رغم ما شهده من تطورات ايجابية في الستينات والسبعينات، الا ان هذه الاقلية العرقية لا زالت تعاني من عنصرية النظام السياسي والاجتماعي في الولايات المتحدة الامريكية. تماماً كغيرها من الاقليات الاخرى وعلى رأسها الاقلية المكسيكية (غير القليلة) حيث ينوف عددها عن خمسة واربعين مليوناً، هذه الاقلية التي كانت تعيش في بلدها المكسيك والذي كانت منطقة كاليفورنيا جزءاً منه، حيث تم احتلالها في اواسط القرن التاسع عشر بعد الحرب المكسيكية الامريكية، قام بعدها الامريكيون باحتلال كاليفورنيا وضمها الى دولتهم الجديدة ثم قاموا بعدها بممارسة التمييز العنصري ضد اهلها وتشريدهم منها تدريجيا، وبلغت ذروة هذا التشريد والابعاد والتهجير في ثلاثينات القرن العشرين اي قبل عدة سنوات من تهجير الشعب الفلسطيني، يقوم العديد من الباحثين في كاليفورنيا والمكسيك بالعمل في مجال جمع الرواية الشفوية حول ما حدث في تلك الحقبة وهي جهود تشبه كثيراً تلك التي نقوم بها في جمع الرواية الشفوية لمهجري حرب عام 1948 في فلسطين، شاهدت صوراً مطابقة كتلك التي توجد لدينا عن نكبتنا، مشاهد لمجموعة من الشاحنات تنقل المواطنين من كاليفورينا الى المكسيك، نساء واطفال مشردون، هاموا على وجوههم في رحلة العذاب الشاقة، ما جرى هناك جرى هنا أيضاً، مع اختلاف الزمان والمكان والشخوص، ولكن مع تطابق المشروع، التهجير للسكان الاصليين من قبل المستعمرين الجدد، لم يكتف المحتلون الامريكيون للاراضي الكاليفورنية بذلك، بل نراهم يقومون الان ببناء جدار للفصل العنصري بين حدود مقاطعة كاليفورنيا وحدود المكسيك، بحيث لا يستطيع السكان الاصليون الدخول الى اراضيهم المحتلة، كل ذلك يتم تحت ذرائع الحفاظ على الاقتصاد الوطني الامريكي، علماً أن كاليفورنا ارض محتلة مكسيكية ولا يحتاج اي من زائريها الى الكثير من الجهد ليدرك ان الارض بتتكلم مكسيكي.

 

احاول التفكير بضرورة اعادة النظر في تحالفاتنا وعلاقاتنا السياسية مع المؤسسات والمحافل الدولية، لماذا لا نفكر في توطيد المزيد من العلاقات مع هذه الاعراق الفاعلة في المجتمع الامريكي، لقد تجاوز عدد الافارقة الامريكيين الخمسة والعشرين مليوناً وضعف هذا العدد من المكسيكيين وملايين كثيرة من غير البيض، تعيش وتعمل وتكافح من اجل حقوقها المدنية في الولايات المتحدة الامريكية، قد تصبح هذه الاقليات الاغلبية الساحقة للمجتمع الامريكي خلال عشرين عاماً وذلك في ظل تزايد اعدادها وتضاؤل اعداد البيض، قد تعود هذه القارة ذات اغلبية غير بيضاء، وهو الكابوس الذي يقلق المسؤولين البيض، لماذا لا نعمل جدياً على توثيق اواصر العلاقة مع هذه الفئات الاجتماعية التي تشاركنا همومنا وعاشت وتعيش نفس معاناتنا وتشردنا! بل هي الاقدر على التعاطف معنا، شاهدت ذلك خلال العديد من الورش واللقاءات والحفلات والامسيات التي تمت دعوتنا للمشاركة فيها، كان لحضورنا اللافت للانتباه رونقاً حصل على ترحيب وتصفيق مستضفينا، كانت فلسطين، ولا زالت، مثلاً اعلى يقتدون به، شاهدت القمصان التي تحمل الايقونات الفلسطينية تباع وتوزع ويلبسها المكسيكيون بفخر في حفلاتهم في حين كان لوجود كل ما هو فلسطيني رمزية وقداسة في نضالهم، شاهدت في شوارع سان فرانسيسكو في كاليفورنيا صوراً لراتشيل كوري وادوارد سعيد وليلى خالد جنباً الى جنب مع صور مارتين لوثر كنج وتشافيز.

 

تنتشر اللوحات الجدارية على اسوار المنازل والمدارس وجدارن الاحياء الشعبية في مدينة سان فرانسيسكو، تتحدث هذه اللوحات الجدارية الجميلة عن الكثير من المرافق التاريخية التي مرت بها المدينة او العالم ابتداءاً من نضال اهلها مروراً بالظروف التي عاناها المضطهدون في العالم وانتهاءاً بحرب جورج بوش على العراق. تلخص هذه الجداريات الكثير من الفلسفات الرافضة للقهر والظلم والتعذيب كما تقوم بدور تثقيفي وتنويري للاجيال المتلاحقة حيث تم رسم اولى هذه الجداريات قبل خمسين عاماً، ولا زالت هذه الجدارية وعشرات غيرها تلون شوارع سان فرانسيسكو لتشرح للاجيال المقبلة التاريخ والكفاح والنضال في سبيل الحرية من العبودية والتمييز.

 

الجداريات، لوحات تمثل تاريخ بلد مر بظروف متميزة، وفلسطين بلد تميزت بغناء تاريخها الحافل بالمرافق التاريخية التي تستحق التوثيق فنياً، يا لفقرنا الفني وضعف مواهب فنانينا الذين لم يتبادر لذهنهم التعبير عن رفض الاحتلال برسم لوحات جدارية تشر معاناة شعبهم بواسطة الجداريات الاكثر تعبيرا من البوسترات التي تشوه الشوارع ولا تقدم سوى المزيد من اليأس والاحباط للمواطنين، لقد التقيت بمتطوعة امريكية زارت فلسطين قبل سنة، قالت لي: ارغب بالتطوع في فلسطين ولكنني افضل البحث عن مدينة لا تنتشر فيها ثقافة الموت كما هي منتشرة في مدينة نابلس والتي تعبر عنها هذه البوسترات الكثيرة المعلقة على جدران الشوارع، هل تستطيع ان تدلني على مكان اقل احباطاً! تستطيع هذه اللوحات الجدارية تخليد الذكريات بشكل فني رائع كما يمكننا من خلالها مخاطبة الرأي العالمي باللغة التي يفهمها، كما يمكننا من خلال الجداريات الفنية تسويق قضيتنا وترويجها اعلاميا، تماما كما يفعل رفاقنا في الاراضي المحتلة المكسيكية في كاليفورنيا.

 

اين الامريكان! تساؤل رددته كثيراً وردده الاخرون، لم نشاهد البيض والشقر بعد، لم اشاهدهم الا في بعض المطارات التي طرنا منها او اليها، أجابني احدهم، هذه هي اميركا، تظنون ان الجميع ُشقر وبيض في الولايات المتحدة الامريكية لأنكم ترونهم وحدهم في وسائل الاعلام ولا تعرفون ان المجتمع الامريكي يستند في مكوناته على هذه الاعراق الاخرى التي تشكل لبنات المجتمع ككل ولا يستطيع هذا المجتمع السير دونها.

 

كثيرة هي التصورات المسبقة عن المجتمع الامريكي، لكن القليل منها كان صائباً، لم اشاهد سيارات تخالف انظمة السير ولم اشاهد شباناً دمويين في شوارع سان فرانسيسكو او ديترويت، لم اشاهد السكارى يترنحون في الشوارع بل شاهدت اناساً يتحلون بالمسؤولية في كل مكان ذهبت اليه، شاهدت مجتمعاً ينتمي الى تلك الارض ويحترمها، والعرب الذين التقيتهم يشعرون بحبهم الشديد لحياتهم في امريكا ويعتبرون انفسهم امريكيين عرب، لقد استطاع النظام الاجتماعي اعطاء المواطن الحد الادنى المطلوب للشعور بالانتماء لهذه الارض، لماذا لا يزال مواطننا العربي يشعر بالغربة حتى في وطنه! ولماذا لا يزال هذا المواطن يكره وطنه وارضه وشعبه ويحقد على كل شيء! ولماذا يبصق في الشارع ويتباهى ويفتخر بانتمائه لهذه الامة وهذه الارض منذ العصور الغابرة! لا بد اننا نمر بازمة سيكولوجية من الفصام بين ما نمارسه وما نقوله.

 

 ترحب الولايات المتحدة الامريكية بالخبراء والمهنيين والحرفيين والمتفوقين في مجالاتهم المختلفة، وهذا احد اسباب التطور الصناعي والعلمي الذي يعيشه المجتمع الامريكي،  في حين يتفنن قادتنا ورؤساؤنا وملوكنا بعمل كل ما من شأنه تطفيش وتهجير العقول المفكرة والعلماء والمفكرين الذين عادة لا يقبلون بما يقبل به بسطاء الشعب، فيلجأ النظام العربي الفاسد المنتشر من المحيط الى الخليج الى ممارسة العنف والارهاب الفكري بحقهم مما يدفعهم للهروب والهجرة الى اي بلد يرحب بهم، يقوم هؤلاء العلماء بتغذية النظام الاقتصادي والصناعي والاجتماعي والسياسي الامريكي بافكارهم وخبراتهم التي ترفع من الانتاج وتزيد من قوة البلد ككل. كم تمنيت حين سمعت عن اعداد ومجالات خبرات المهاجرين العرب في الولايات المتحدة تمنيت ان تقوم الادارة الامريكية الطائشة بتهجيرهم الى بلدانهم على خلفية الاحداث الاخيرة ليعودوا ويحرضوا شعوبهم على الثورة على الفساد، إذ لن يحتمل اصحاب هذه العقول الكبيرة العيش في ظل القهر والدكتاتورية والقمع، بل سيقومون بتثوير المجتمع على الانظمة السياسية التي عفى عليها الزمن، تذكرت اسطورة الكهف الافلاطونية التي تتحدث عن مجموعة من الناس الذين يعيشون في كهف مظلم، يظنون ان الكهف هو كل شيء في الحياة، ولا يعرفون ان هناك نوراً وشمساً في الخارج، يعيشون على مجموعة من الاوهام والخزعبلات والخرافات، وفي يوم من الايام، يهرب احدهم من شق صغير في طرف الكهف، وينبهر حين يرى ضوء الشمس والنهار، يغلق عينيه لشدة الضوء الذي يراه، ثم يحاول التكيف تدريجياً مع هذه المعرفة الجديدة التي وصل اليها، ويتساءل: هل اعود الى الكهف ام ابقى هنا مستمتعا بالنور والمعرفة والحياة الجديدة! لكنه يبقى ممزقاً بين خيارين: العودة او عدمها، لا يختلف هؤلاء المهاجرون العرب عن هذا الشخص الذي اكتشف نور الحياة، لا بد له ان يعود لبلده لينوّر ويثوّر شعبه ويضيء سبيله، لا زالت الملايين من امتنا العربية تعتقد ان الملك او الرئيس من انصاف الالهة التي لا تخطىء، بل ُجن جنون بعض هذه الدول حين توفي رئيسها قبل عدة سنوات، وهام الناس في الشوارع على وجهوههم يبكون سيدهم، بل قالوا كيف لنا ان نعيش بعدك يا سيدي الرئيس! لا بد من نقل التجربة الدستورية الغربية الى مجتمعاتنا العربية التي لا تزال تعيش في ظل نظام الوالي العربي وحاجبه وحريمه وجارياته. هذا النظام البالي الذي سكر الدهر عليه وعربد.

 

لقد تعرفت على الثقافة الاسبانية اكثر مما تعرفت على نظيرتها الامريكية خلال زيارتي لكاليفورنيا، حيث تنتشر المطاعم المكسيكية والموسيقيين المكسيك والاسبان في كل مكان، سواء في الحفلات التي شاركنا ببعضها او في الشوارع او في سلوك المواطنين او جلسات وورش الحوار، تمتعت بالاستماع للجيتار الذي ذكرني بالزيارتين اللواتي قمت بهن سابقا لاسبانيا، يا لقوة ثقافة الاسبان التي تمكنت من غزو ثقافات الاخرين وفرضت نفسها بقوة عليهم!

 

التقدميين، او ما يسمونهم بالبروجريسيفز، ظاهرة نضالية رائعة تتمتع بالاحترام والتقدير، يقوم التقدميون في الولايات المتحدة الامريكية عموماً وكاليفورنيا خصوصاً بتنظيم الفعاليات الكفاحية والنضالية طيلة ايام السنة، يناهضون الحكومة ويقومون بتوعية الرأي العام المحلي وينظمون الحملات الرافضة للحروب ويطالبون الحكومة دوماً باحترام حقوق الانسان وينشطون سياسياً وقانونياً للدفاع عن المواطن، اتمنى لو كانت لدينا في عالمنا العربي حركات نضالية تتعلم من تجربة الكفاح غير العنفي ضد الحكومات كما اتمنى على حكوماتنا العربية ان تتعلم ولو قليلاً من تجارب الآخرين.

 

تعرفنا على بعض تفاصيل تاريخ مدينة ديترويت والذي بدأ بالتطور مع قيام هنري فورد بتأسيس اول معمل للسيارات فيها، حيث توافد عشرات الالاف من العمال الى المدينة للعمل في صناعة السيارات التي كانت تحتاج الى جهود عضلية كبيرة وشاقة مما وفر فرص عمل لحوالي مائة الف عامل تقريباً، تجولنا في احد المصانع، شاهدت بعض العاملات ترقص وهي تستمع الى المنوعات الغنائية بينما تقوم بتركيب الاضواء الى السيارات وتنتقل من سيارة الى اخرى بمارسة المزيد من الرقص، لا بد ان العامل يحصل على حقوقه الكافية كما لا شك ان ادارة العمل ونقابة العاملين قد توصلت منذ عقود الى اتفاقيات تضمن الحفاظ على مصلحة الطرفين، في حين تم تجريد نقاباتنا العمالية من مضمونها واصبحت بوقا للنظام منذ عقود وفقدت ثقة العاملين بها. زرنا متحف سيارات مصانع فورد، شاهدنا مجموعات كبيرة من السيارات القديمة جداً وعربات القطارات وبعض الطائرات من صناعة شركة فورد، لقد تمكن هذا الرجل، هنري فورد، من بناء مدينة ديترويت وذلك بتطوير صناعة السيارات فيها لتصبح محجاً لهواة السيارات الامريكية. جدير بالذكر ان شركة فورد تعاني من خسار سنوية كبيرة لكنها تستمر في الانتاج وتغذية السوق الامريكي والعالمي بمنتجاتها رغم منافسة السيارات اليابانية لها. شاهدنا اسقف المصانع التابعة للشركة مغطاة بالعشب الاخضر وذلك حتى يتم امتصاص الكربون الملوث للهواء، لم الاحظ ان التلوث في مدينة ديترويت يشبه نظيره في اي من بلداننا العربية الملوثة بيئياً. مبادرة زراعة العشب على اسقف المصانع مبادرة تستحق الاحترام والتفكير بها ملياً ويا حبذا لو قامت المؤسسات التعليمية والمدارس بتجريبها في مدننا علماً انها لا تحتاج الى تكاليف باهظة كما فهمنا من الدليل الذي اصطحبنا في الجولة في مصانع فورد.

 

مدينة ديترويت مدينة العرب الامريكيين، تنتشر المطاعم والمحلات واليافطات العربية في كل مكان فيها، يجتمع العرب في المطاعم حول الموائد الرمضانية وتنتشر المساجد فيها ويعيش العرب حياتهم بشكل طبيعي على الرغم من التمييز العنصري والاضطهاد الذي ازدادت وتيرته بعد احداث سبتمبر.

 

كانت زيارتي الدراسية للولايات المتحدة الامريكية مفيدة في العديد من المناحي الثقافية والاكاديمية حيث تعرفنا على نظام الدراسة والالتحاق بالجامعات لدراسة الماجستير والدكتوراه بالاضافة الى التعرف على جوانب مختلفة من ثقافة المجتمع الامريكي. ومن الورش التي اعجبتني تلك التي قدمها بروفيسور امريكي عراقي عن الدمار الذي لحق بالتراث العراقي والاثار والمتاحف، لم اتوقع ان حجم الدمار سيصل الى هذا المستوى، تذكرت المهام التوثيقية التي يقوم بها البعض فيما تبقى من فلسطين، وربطت ذلك بما يجري الان في العراق، لقد تدمرت البنية الثقافية في العراق وهي مقدمة لما بعد ذلك من تقسيم العراق الى اقسام لا هوية لها ولا ثقافة ولا تاريخ موحد.

 

سافرنا في الطائرة في رحلة متواصلة ودون توقف من ديترويت الى عمان، الا اننا فوجئنا بصوت قبطان الطائرة يتحدث عن هبوط اضطراري في روما بسبب اعتلال صحة احد الركاب، وفور هبوط الطائرة السريع على مدرج المطار، تدفقت الطواقم الطبية والطوارىء والاسعاف لانقاذ المسافر الذي تم أخذه الى احدى المشافي الايطالية على الفور، وتمت جميع الاجراءات الادارية بيسر وسهولة، وانطلقنا في طريقنا وفهمنا من طاقم الطائرة ان الرجل سيتم نقله الى الوطن بعد تحسن حالته الصحية وهو في ايدٍ أمينة، ومما يستحق المقارنة اننا وحين كنا في طريق عودتنا عبر جسر العودة فوجئنا برجل مسن وقد فقد الوعي في الباص وذلك بعد خروجنا من الجسر الاسرائيلي، صاحت احدى المسافرات بالسائق وبرجال الأمن الفلسطينيين الذين يصرون على جمع هويات الركاب لتسجيلها في سجلاتهم، صاحت بهم متسائلة: حرام عليكم، إرحموا هذا الرجل المسن، هل تقبلون أن يتعرض آبائكم لمثل هذا الإنتظار! بادر احدهم وبعد انتظار خمسة او عشرة دقائق بإرسال سيارة الاسعاف، حملت وشاب آخر ذلك الرجل المسن ووضعناه في سيارة الاسعاف التي اخذت المريض الذي يبلغ من الكبر عتياً، حاولت اعطاء رجل الامن بطاقات واوراق الرجل المريض لكنه لم يهتم، حاولت اعطاءها لرجل الاسعاف الذي لم ينتبه، ذهبت الى الاستراحة حين وصولنا واتصلت بأهل المريض وطلبت منهم الحضور لمتابعة صحة والدهم في بلد يضيع فيه من لا اهل له، تماماً على عكس ما تقوم به الحكومة في الغرب، حيث تقول لمواطنيها، عزيزي المواطن، لا تفكر، الدولة تفكر عنك، في تلك البلدان، لا حاجة لأن يكون المواطن ملماً بشؤون الخضار واللحوم وجودتها ومستوى الغش فيها ولا ان يكون ملماً بتفاصيل المواصلات المضحكة في بلداننا وعجقاتها، إذ يوفر النظام أجوبة لهذه الاسئلة، ويقوم بالنيابة عن المواطن بالدفاع عن مصالحه وصحته، اضحكني مشهدنا حين وصولنا للجسر، يهجم كل مسافر منا على حقيبته لالتقاطها، تنتشر الحقائب على الارض في مشهد مقرف يشبه من استفرغ طعاماً كثيراً والقاه فجأة، لا يوجد نظام يضمن عدم ضياع الحقيقة او عدم سرقتها، الفهلوة ضرورية في مجتمعنا، في حين ضمنت المجتمعات الغربية للمواطن غير الفهلوي حقه في شراء السلع غير المغشوشة وحقه في المواصلات الكريمة حتى لو كان معاقا.

 

ومما يستحق الذكر تلك المحافظة على الاخلاق والدين في المناطق التي زرتها، او على الاقل المحافظة على الذوق العام، لم أر، الا نادرا،ً شبانا وفتيات يتعانقن في الشوارع او يمارسن الجنس كما شاهدتهم في الشوارع الاوروبية، يقول البعض ان اوروبا اكثر اباحية من الولايات المتحدة الامريكية التي ُتعتبر اكثر محافظة من اوروبا في هذه الامور.

 

دائم الخضرة هذا المجتمع، تماماً كأرضه الخضراء، يتجدد وينتج المزيد من النظريات والافكار والمفاهيم التي استطاعت، لولا عنجهية سياسييها، بناء امبراطورية ضخمة قائمة على المفاهيم المشتركة للمصالح الاقتصادية والاجتماعية مع باقي شعوب العالم، أتمنى لهذا البلد دوام الازدهار ولكن ليس على حساب نفط العراق ودماء العرب وغيرهم من شعوب العالم، اتمنى تعميم بعض الجوانب الايجابية في المفاهيم الامريكية للحياة على المجتمعات العربية، كما أتمنى على شعوبنا ومؤسساتنا العربية فهم المجتمع الأمريكي ودراسته والتعمق فيه اكثر بدلاً من الاكتفاء بمشاهدة ومتابعة أخبار حفنة من الامريكان ممثلة بإدارتهم السياسية التي لا تمثل طموحات المجتمع الامريكي وإن كانت منتخبة، فالمجتمع الامريكي مجتمع مغلوب على أمره في هذا المجال وليس بأفضل حال من حال شعوبنا العربية.

 

 

 

ديترويت، 24 اكتوبر 2006

 

 

 

أضف تعليق
تغيير الصورة
تعليقات الزوار
تصميم وتطوير: ماسترويب