ما الذي يبكيك يا أيوب؟؟
عدد القراءات: 2526
أ. عدنان السمان
قلت: عرفتك صابراً رابط الجأش ثابت الجنان، ولم أعهدك باكياً شاكياً هلوعاً جزوعاً...فما الذي يبكيك يا أيوب؟
قال: أمور كثيرة يا ولدي لا يمكن حصرها...كيف لا أبكي وهذا الظلم الصارخ غير المسبوق يفعل فعله في هذه الديار وغير هذه الديار من بلاد الله التي كانت واسعة...إن ما يبكيني هو هذا السيل الجارف من الأكاذيب ، والغش ، والخداع، والتزوير، وقلب الحقائق، وإنزال أشد العقوبات بالأبرياء المسالمين من أصحاب البلاد الشرعيين بسبب وبدون سبب..ومكافأة المعتدين الغزاة العنصريين الذين نهبوا كل شيء، واستباحوا كل شيء...وصادروا كل شيء...إن ما يبكيني هو أن هؤلاء المعتدين قد وجدوا أعواناً لهم ينفذون رغباتهم ومخططاتهم...بل وقد يرشدونهم إلى ما لا يخطر لهم على بال من الفظائع والموبقات التي تقشعر لهولها الأبدان...وأنكى من ذلك وأدهى أن هؤلاء المعتدين قد وجدوا في هؤلاء الأعوان من يقوم ببعض المخازي والجرائم نيابة عنهم...يبكيني هذا المريض الذي لا يستطيع الحصول على الدواء...وهذا الطالب الذي لا يستطيع متابعة دراسته لأنه من المقموعين المسحوقين الجياع في هذا الوطن...يبكيني هذا العامل الذي لا يقوى على توفير شيء من احتياجات أسرته...وهذا الفلاح الذي صادروا أرضه، وقطعوا أشجاره، وقتلوا دجاجه وأغنامه، وعزلوه عن محيطه بوسائل كثيرة باتت معروفة للقاصي والداني في هذا العالم الذي فقد ضميره منذ زمن بعيد...تبكيني هذه الأم التي لا تجد ما تقدمه لأطفالها..وهذا الطفل المتشرد الذي لا يجد معيلاً أو موجّهاً أو مرشدا...وهذه المتسكعة التائهة التي " خدعوها بقولهم حسناء" فراحت تبحث عن ثمن هذا الحسن في سوق الجسد...يبكيني هذا الصمت المريب الذي يلف الدنيا من حولكم..وهذا الصمت المشبوه تجاه كافة قضاياكم العامة والخاصة، وتجاه سائر أوجه حياتكم اليومية التي توالي انزلاقها وتدحرجها نحو الانهيار الشامل تارةً على طريق الانتحار الذاتي ..وطوراً بفعل فاعل...كيف لا أبكي يا ولدي وأنا أرى الخراب والدمار والهوان، وسائر العلل والآفات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية والنفسية تعصف بهذا المجتمع، وتضرب بدون أدنى رحمة كل مدنه ومخيماته وقراه؟؟ كيف لا أبكي وأنا أرى أن أعداد الأسرى قد ازدادت بشكل مذهل خلال النصف الثاني من العام الماضي ؟ ففي كل يوم معتقلون وأسرى جدد يضافون إلى الأسرى الذين كنتم تقدرونهم بعشرة آلاف فيما مضى من أيام .. كيف لا أبكي وقد أصبح عددهم اليوم ثلاثة عشر ألفا ، ولا زال الجرح النازف مفتوحاً  ؟؟ كيف لا أبكي وكل مدن هذا الوطن ، ومخيماته ، وقراه خاضعة للاجتياح والعزل ، والإغلاق ، وتقطيع الأوصال بشكل لم يشهد له هذا الوطن مثيلاً من قبل ؟
قلت: كفى يا أيوب..فقد بلغت مني ما بلغت...ونلتَ مني في دقائق ما لم ينله هؤلاء وكل أولئك في كل أيام العمر الخالية...
قال: لقد صوّرتُ أحوالكم يا صديقي، ولم آت بشيء من عندي..ولم أبالغ في وصف هذه الأحوال، بل لقد تعرضتُ لأقل القليل منها...فأنا أعرف ما لا تعرفون..ولكنني أربأ بنفسي عن تصوير كل معالم الصورة..
قلت: الآن، وقد سكنتْ حدّةُ غضبتك.. وأفرغتَ كلَّ شحنتك أرجو أن تحدثني بهدوء وإيجاز عن سبب وجود من تحدثتَ عنهم في مستهلّ حديثك ممن يقومون بما لم يقم به المعتدون أنفسهم من فظائع وموبقات...فهل تقدم لنا هذه الخدمة أيها الحكيم الصابر؟
قال: عندما ينمّي الأب في أبنائه خلق الوشاية والسعاية، ويربيهم على التقرب المستمر منه بأي ثمن ، وعلى حساب باقي أفراد الأسرة ، فإنه يرتكب خطأ كبيراً بحقهم...وعندما يسلط بعضهم على بعض يراقب كل منهم الآخر، ويحصي عليه أنفاسه متدخلاً في أدق تفصيلات حياته ليرفع إلى أبيه كل ذلك فإن هذا الأب إنما يجني على أبنائه، ويصنع منهم شخصيات مهزوزة يمكن اختراقها وتسخيرها لخدمة أغراض المخترقين وأهدافهم.
وعندما يسلك المعلم في تربية طلابه سلوك هذا الأب في تنشئة أطفاله...ويستعين ببعضهم لمعرفة ما حدث في الصف، أو ساحة المدرسة أو في هذا البيت أو ذلك من بيوت الحي ، فإنه إنما يهيئ هؤلاء الطلاب لممارسة أخس الأدوار ، وأبشعها بحق أنفسهم ، وأسرهم ، ومجتمعهم...
وكذلك فإن الدور الرهيب الذي يلعبه مدير المدرسة، وهو يختار المخبرين السريين من الطلاب في صفوف مدرسته لينقلوا إليه "بمختلف الوسائل" كل ما يجري في هذه الصفوف، بما في ذلك ما يقوله المعلمون ويفعلونه، وبما في ذلك ما يجري في بيوت زملائهم ، وما يقال فيها، وما يجري في مدارس أخرى أو في أماكن لا علاقة لها بالدراسة والتدريس...هذا الدور الرهيب الذي يقوم به مثل هذا المدير لا يمكن أن يوصف إلا بأنه الطريقة المثلى لصناعة مثل هؤلاء الأعوان.
وتكتمل حلقات هذه الدائرة عندما ينتمي هؤلاء الفتية خارج أسوار مدارسهم أو داخلها، وضمن أسوار جامعاتهم أو خارجها ، وفي إطار جيش العاطلين عن العمل....أقول عندما ينتمي هؤلاء إلى هذه الفئة أو تلك، وإلى هذا الزعيم أو ذاك..تكتمل الحلقات...ويختلط الخاص بالعام....وتشتد ضراوة الصراعات والتكتلات والتشيعات..وتشتد الحاجة للاختراقات كي يعرف كل فريق ما في قدور الفريق الآخر أو الفرقاء الآخرين، وما في مطبخه على النار الهادئة أو النار المستعرة...وتروج سوق التجسس ، والتنصت ، والتلوّن ، والكذب، والنفاق ، والازدواجية ، والتوتر ، والخوف ، واضطراب السلوك ، وانعدام الوزن ، والضَّياع المغلف بمتطلبات المرحلة وحكم الرغيف....ويبقى القول الفصل للسيجارة التي تحرق باحتراقها كل خيوط القيم والأخلاق وشرف الانتماء، وكل الأوراق الملونة الجميلة من جغرافية هذا الوطن وتاريخه، إضافة إلى صدر صاحبها ، وصدور جلسائه من ذوي الحاجات العاجلة، وممن يبحثون وسط هذا الطوفان عن دور أيّ دور!! وما على أعداء هذه الأمة إلا أن يركبوا...فالأوضاع جد مواتية، وما زرعوه في الماضي البعيد يؤتي أكله اليوم...فأفيقي يا خرافي..واتبعيني يا شياه!!
إن أمة يصنع أعداؤها زعماءها، وتصاغ مبادئ حياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في دوائر هؤلاء الأعداء، ومراكز بحوثهم ودراساتهم ومعاهدهم الاستراتيجية هي أمة – وأحر قلباه- بحاجة ماسة لصحوة سريعة شاملة تعيد إليها وجودها واعتبارها ومكانتها التي كانت يوم كانت خير أمة!!
وتسألني يا صديقي عن هذه المسوخ...ابدأ يا صديقي بالكلمة التي تصنع الإنسان.. ابدأ بالتربية السليمة في البيت ، وفي الشارع ، وفي المدرسة .. ابدأ بثورة ثقافية شاملة تأتي بجيل جديد لا يعرف الكذب ، والتلون ، والتزوير ، وقلب الحقائق ، والنفاق .. جيل حر عزيز متحرر لا يعرف الخضوع والاستسلام، ولا يساوم على الأوطان ، والثوابت والمقدسات .
أضف تعليق
تغيير الصورة
تعليقات الزوار

1

هديل ضامن، نابلس
بارك الله فيك على الموضوع الرائع والله هذه بالفعل حقيقه امتنا المؤلمه والله يوفقك في كتاباتك الرائعه

2

ميرنا المصري، نابلس
بسم الله الرحمن الرحيم تحية لموقعكم الكريم والمشرفين عليه وتحية والف تحية للكاتب الرائع عدنان السمان والله ابكاني في ما كتب بارك الله فيه ونحن في امس الحاجة لكتّاب مثله واطلب من الموقع ان يواصلو في نشر كتاباته ولكم خالص شكري وتقديري
تصميم وتطوير: ماسترويب