في حي قديم من أحياء البلدة القديمة في مدينة نابلس، كنا نسكن منذ عشرات السنين، حيث يسكنها أناس طيبون بسطاء، يغلب عليهم طابع الفقر والعوز، لكنهم أصيلون في انتمائهم إلى هذه الارض وهذا الوطن، وما انفكوا يوماً عن حب هذا التراث وهذه الذكريات في كل زقاق أو شارع ضيق من شوارعها.
في هذا الحي القديم، حي الشيخ مسلم، حيث ُولدت وولدت الذكريات، كثير منها لا يمكن له ان يختفي من الذاكرة، والأكثر سيرافقني حتى الموت، ومن بين الذكريات والقصص التي لن أنساها، قصة جارنا أبو العبد، هذا اللاجىء الفقير الذي أخرج من مدينته التي لم يكف يوماً عن الحديث عنها، ومن يستطيع التوقف عن الحديث عن ذكرياته خاصةً إذا كان من أبناء مدينة جميلةٍ كمدينة حيفا!
عاش أبو العبد مع زوجته وأبنائه في شقة صغيرة جداً في حي الشيخ مسلم في البلدة القديمة من نابلس، كانت الشقة مكونةً من غرفة واحدة فقط، وكثيراً ما حدثنا عن صعوبة العيش وضيق ذات اليد، عمل أبو العبد منذ هجرته من مسقط رأسه عام 1948 في بيع الخضروات والفواكه، أذكره في السبعينات بينما كان يدفع عربته القديمة في أزقة البلدة القديمة محاولأ بيع بضاعته، ولكن الأمراض لم تدعه وشأنه، كان رجلاً كبير السن، ولكن لا بد له من البحث عن وسيلة رزق أخرى يعتاش منها وأبناءه.
أذكر تلك الفرحة الكبيرة التي ملأت فؤاده يوم استطاع أبناؤه فتح "بسطة" لبيع الفلافل في الحارة، كانت بمثابة تحول تاريخي في مسار هذه الأسرة اللاجئة الفقيرة، ولكن سرعان ما فشل المشروع وعاد أبو العبد كعادته يحلم بالعودة الى حيفا.
"حيفا، أجمل مدينة في العالم" هذا ما كان يردده دوماً، كان في العقد الثالث من العمر يوم نادى المنادي بالرحيل، فأبو العبد يذكر حيفا بأدق التفاصيل، يذكر شوارعها وأسواقها، وإن ينسى فلن ينسى سينما الحمراء والحفلات التي شارك فيها في تلك السينما والتي كانت بمثابة المعلم الثقافي والحضاري لسكان مدينة حيفا الذين تجاوز عددهم الثمانين ألفاً قبل الرحيل الكبير.
كان أبو العبد يأتي يومياً إلى دكاننا الصغير في الحارة، ليستأنف الحديث عن ذكرياته، ويشاركه والدي، ابن يافا، هذه الأحاديث، ليستمر أبو العبد في الحديث عن الأفلام التي شاهدها في سينما الحمراء، أيام محمد عبد الوهاب، وأسمهان وفريد الأطرش ، بينما يصغي رجال الحارة إلى الحديث الذي تكرر عشرات المرات خلال السنين الماضية، ولكن لا اذكر لماذا لم يجرؤ أيّ منهم على التذمر من تكرار هذه القصص، قد يعود ذلك الى الهالة المحيطة بأبو العبد، هالة الوقار والكبرياء والشموخ.
ومن الطقوس اليومية التي لا تقبل الجدل أو النقاش، الصمت المطلق في تمام الساعة الثالثة عصراً أو "الواحدة بتوقيت غرينتش" كما اعتاد أبو العبد أن يقول، إذ يطلب من الجميع التزام الصمت، ويفتح المذياع على راديو لندن، أو لوندون كما يحلو له أن يسميها، وتستمر النشرة الإخبارية المفصلة مع التحليل الإخباري قرابة الساعة، يتابع فيها الجميع مع أبو العبد مجريات الأحداث: الانسحاب من سيناء، ومفاوضات السادات مع كارتر وبيغن، مبادرة هنري كيسنجر، التضخم في اسرائيل، المؤتمر الدولي للسلام وغيرها من أخبار السبعينات والثمانينات.
كنت أراه وأسمعه يسب ويشتم ويتكلم مع نفسه أثناء الاستماع إلى نشرة الأخبار، كان متلهفاً على أي خبر قد يحمل في طياته أملأ في العودة إلى حيفا، حيث جبل الكرمل الشامخ والمشرف على البحر، حيث الهدار وسينما الحمراء، حيث الشباب المفقود أو بالأحرى الفردوس المفقود.
وبعد الانتهاء من نشرة الأخبار اليومية، كنت أتنفس الصعداء، أخيراً انتهى مذيع الأخبار(البطيء جداً) من تلاوة نشرته الطويلة التي ضقت ذرعاً من تكرار أحداثها يومياً. بادرت يوماً وسألت أبو العبد: "لماذا لا تذهب إلى حيفا، إن السيارات الذاهبة إلى حيفا وتل أبيب ويافا تتجمع يومياً في دوار المدينة"، وأذكر الآن منظر هذه السيارات المرسيدس القديمة التي كانت تتجمع في الجهة الشرقية من دوار الحسين في مدينة نابلس، بينما ينادي السائقون: "يافا، تل ابيب، حيفا". لم تكن هناك حاجة يومها للحصول على تصريح، ولم يكن هناك حواجز احتلاليه على طول الطريق الممتد بين نابلس وحيفا.
أجابني أبو العبد: "من الصعب جداً أن أذهب الى هناك"، لم أفهم جوابه، فالطريق مفتوحة والسيارات موجودة، أدركت يومها أنني لن افهم هذا الرجل، إذ لا تبتعد حيفا سوى ساعتين، وبعدئذ يمكنه أن يرى مدينته التي لم يزرها منذ عشرات السنين، بينما يكتفي كل يومٍ بالحديث عن ذكرياته فيها، لماذا لا يقوم بزيارتها؟ يا له من سؤال ساذج.
كثيراً ما أحب الإنسان أن يحيا على حلم جميل وخشي من رؤيته لهذا الحلم وقد صار واقعاً، وأذكر هنا بيتاً من الشعر لشاعر لا اذكر اسمه: وما السعادة سوى شبح فإن صار جسماً ملّه البشر، فمن الأفضل أن تبقى الذكرى وجعاً في رخام الذكريات، إذ ستصبح فقيرةً عندما تتحول إلى حقيقة واقعة.
ومضت الأيام والسنون، ولم يتغير شيء على هذه الحارة المنسية، إلى أن جاء أبناء أبو العبد الثلاثة إلى دكان والدي مستفسرين عن والدهم، لقد اختفى أبو العبد منذ صباح هذا اليوم، وبدأنا بالبحث عنه، ولكن دون جدوى، مضى اليوم الأول والثاني ولم نعثر على أثر له، وفي اليوم الثالث، جاء رجل شرطة من مركز شرطة نابلس الى حارتنا، وتوجه الى والدي برفقة بعض الجيران الذين قاموا بإرشاده علينا، وقام الشرطي بإشهار هوية قديمة أمام والدي وسأله: "هل تعرف هذا الرجل؟ لطفي عبد الفتاح الميناوي؟" فأجاب والدي: "طبعاً، إنه جارنا وصديقنا أبو العبد، ونحن نبحث عنه منذ ثلاثة أيام"، فقال الشرطي، "أحضر أبناءه والحقوا بنا إلى مركز الشرطة."
وفي مركز شرطة نابلس، قيل لأبناء أبو العبد، " هذه هوية والدكم، ويجب عليكم السفر فوراً إلى مستشفى رامبام في حيفا لإحضار جثته الى نابلس، لقد استلمنا تقريراً طبياً من المستشفى في حيفا مرفقاً بهوية والدكم، ويقول التقرير الطبي أن صاحب بطاقة الهوية كان قد تعرض لجلطة قلبية مفاجئة أثناء سيرة في شوارع حيفا فقد على إثرها الحياة".
أخيراً وبعد عشرات السنين من الغربة في مدينة نابلس، عاد أبو العبد إلى حيفا، ليراها ويستعيد ذكرياته القديمة، وتمر هذه الذكريات كشريط سريع، يسترجع فيه الطفولة والشباب والكرمل والهدار، وليشاء الله أن تكون الوفاة في هذا البلد الذي لا يمكن لمن عاش فيه أن ينساه، في مسقط رأسه، حيفا، فلم يكن ممكناً لأبو العبد أن ينسى بلداً سكنت قلبه، وانتقل أبو العبد إلى جوار ربه حاملاً معه هذا القلب دائم الحنين كحنين الحمام إلى موطنه الأصلي، فكم منزل في الارض يألفه الفتى وحنينه أبداً لأول منزل.