بقلم: علاء أبو ضهير
توجهنا الى قمة جبل الطور (جرزيم) تلبية لدعوة أصدقائنا من أبناء الطائفة السامرية لمشاركتهم اعيادهم السنوية بعيد الفسح، (بالسين وليس بالصاد)، كانت مناسبة فريدة لنا بعد أن عشنا تسعة أعوام في حصار يمنعنا الذهاب الى قمة الجبل (جبل جرزيم)، هذا الجبل الذي اسكن سفحه دون ان ُتتاح لي فرصة الصعود الى قمته حيث يسكن أبناء أقدم طائفة في العالم، لم يسمح لنا الحصار بذلك رغم قرب المسافة الى لا تصل الى كيلو متر واحد او كيلومترين من بيتنا. وكذلك حال جميع سكان مدينة نابلس، هذه المدينة التي احتضنت هذه الطائفة منذ ثلاثة آلاف وستمائة سنة.
ما إن اقتربنا من الحاجز العسكري المجاور للحي الذي تقطنه الطائفة السامرية حتى بدأ جنود الاحتلال بممارسة هواياتهم في تأخيرنا والمماطلة في تسهيل مرورنا رغم حصولنا على إذن يسمح لنا بالمرور للمشاركة في احتفالات الطائفة السامرية عيدها.
بدأت إحتفالات العيد الذي تسمية الطائفة ب (باس اوفر) او (الفسح)، بتوجه جميع أبناء الطائفة بشقيها النابلسي والآخر المقيم في حولون الى ساحة المذبح، يلبس كل منهم لباسه الابيض بينما تلبس النساء ملابسها الاعتيادية، إذ ترمز الملابس البيضاء الى المساواة بين الناس، فلا فرق بينهم امام الله الا بالتقوى، ترتبط فكرة المذبح والتضحية بالموروث الديني لدى جميع العقائد السماوية المستندة على قصة تلبية سيدنا ابراهيم عليه السلام لامر ربه بالتضحية بإبنه ثم فديته بكبش يقدم أضحية وقربانا لله عز وجل.
لا شك ان المشاعر الدينية الدينية لدى الطائفة السامرية قوية ومليئة بالروحانيات التي تربط ابناءها بالله، بدا ذلك واضحا من خلال انسجام الجميع في الشعائر الدينية المختلفة من قراءة للتهاليل وغيرها من ممارسة الطقوس والشعائر التي ورثها ابناء الطائفة عن ابآئهم واجدادهم منذ آلاف السنين.
حظيت الطائفة السامرية بسمعة طيبة بين جيرانها من المسلمين والمسيحيين واستحقت بجدارة وصفها بجسر السلام والمحبة بين جميع الطوائف. التقينا بعدد من كهنة الطائفة السامرية بالاضافة الى الكاهن الاكبر للطائفة الذي استقبلنا في منزله وتحدث لنا عن تاريخ الطائفة وذكرياته الشخصية بعد انا عاش اربعة وثمانين عاماً تجول خلالها في مختلف بلدان العالم ليقول لنا ان مدينة نابلس هي احب المدن الى قلبه، كيف لا وقد ُولد وعاش فيها هذه العقود الطويلة وعايش ظروفها الصعبة ونكباتها ومآسيها المختلفة. تحدث لنا عن زيارات الرئيس الراحل ياسر عرفات لبيته واهتمامه بالطائفة ودعمه لها. وتحدث عن اهتمام الطائفة بالعلوم والفلك كما تحدث عن إنسجام الطائفة مع المجتمع المسلم والمسيحي في مدينة نابلس عبر القرون، ثم التقينا بكاهن آخر حدثنا عن فلسطينية هذه الطائفة واختلافها عن اليهود المقيمين فيما أصبح يسمى ب(اسرائيل)، كان حديثه ممتعا، لم يخل من الظرافة والمزاح الذي جذب المستمعين الى كلماته التي شرح لنا فيها عدم اقتناع الطائفة بقدسية القدس إذ لا يوجد ما يثبت قدسيتها لليهود، وتحدث أيضاً عن الف خلاف بين الطائفة السامرية والديانة اليهودية بحيث تبقى الطائفة متميزة بدينها عن الديانة اليهودية وما لحق بها من فكر صهيوني جلب اليهود من كل بقاع العالم الى فلسطين منذ قرن تقريبا بينما تعيش الطائفة السامرية في مدينة فلسطين منذ آلاف السنين. قبل لنا أن بعض اليهود يقولون انه يتوجب على السامري أن يصبح مسلماً قبل ان يدخل الديانة اليهودية وذلك للاشارة الى مستوى الخلاف العقائدي بين اليهود والسامريين، حيث ُعرف عن الطائفة السامرية أنها الوحيدة القادرة على إثبات التزوير والتلفيق الذي لحق بالديانة اليهودية.
ثم توجه موكب الطائفة الى المذبح ضاماً كبار الشخصيات المسيحية والمسلمة والدرزية والاسرائيلية والسامرية حيث بدأت أذرع أبناء الطائفة السامرية بالارتفاع الى السماء بالدعاء والتهليل وذلك قبل نصف ساعة من الغروب كما هو متبع في الطقوس والشعائر السامرية بينما أمسك العشرات من رجال الطائفة بالاضاحي واستعدوا لنحرها وقت غروب الشمس.
في هذا المناخ الغريب الذي تجتمع فيه الاضداد، تواجدنا في نفس المذبح جنباً الى جنب مع جنود الاحتلال الاسرائيلي وضباطهم وكبار المسؤولين من مختلف الطوائف، كان الجميع منهمكاً بالتفرج على الطقوس والشعائر السامرية، تواجدت عشرات القوميات واللغات والاديان في رقعة صغيرة من الارض، تدافعت الاكتاف المنتمية الى اعراق متضادة، بل اقتربت المسافة المكانية الى الحد الادنى بحيث استمع كل منا الى ما يقوله الطرف الآخر، كنا نتبادل الحديث مع بعض الطلبة الجامعيين من اصدقائنا من ابناء الطائفة السامرية حين اقترب رجل يلبس لباساً ازرق شبه عسكري، مد يده مصافحاً وخاطبني بالعربية وبوجه بشوش:هل انتم طلاب جامعيون، فاجبت بنعم، وسألته عن نفسه بينما لا زالت يدانا تسلم على بعضها، التفتت الى النجوم التي يضعها على كتفة، وسحبت يدي بسرعة قائلا: يبدو أنك من الجيش الاسرائيلي! فاجاب: ولماذا سحبت يدك بهذه السرعة؟ فقلت له كمن أتيحت له فرصة مكبوته للتعبير عن الظلم التاريخي الذي لحقه من هذا الجيش، كيف تريدني ان أترك يدي مع يدك وانتم لا تدعونا ننام الليل! تجتاحوننا كل ليلة، كل ليلة، وتثيرون الرعب والخوف بعرباتكم العسكرية، فقال لي: نحن لا نحضر الى بيتك، هل نأتي الى بيتك ام الى الحي المجاور لبيتك، فقلت له: وما الفائدة اذا كنتم تثيرون الرعب فينا جميعاً، أجاب: وماذا تقترح؟ انحضر ليلة بعد ليلة؟ فأجبته مستغرباً: ولماذا لا تحضرون في النهار! ذلك أسهل واقل رعباً، واكملت حديثي بلهجة ساخرة، ِحلو عنا، هلكتونا، كل يوم، كل يوم اجتياح، خففو دمكم شوي، والله هلكتونا بإجتياحاتكم. ومضينا في طريقنا لنرى بقية السياح الاجانب بل والمستوطنين يلتقطون آلاف الصور التذكارية في هذا الحشد الغريب من الأمم المتناقضة والمختلفة المذاهب، هذا الحشد الذي أراه لاول مرة، ربما كان هذا هو سحر المكان، او سحر هذه الطائفة الصغيرة التي جمعت جميع المتناقضات في حديقة ضيقة.
يعمل أبناء الطائفة السامرية في مختلف مرافق الحياة في مدينة نابلس،من تجارة وادارة ومؤسسات تعليمية كما يدرس أبناؤها في المدارس والجامعات الفلسطينية ويعتبرون أنفسهم جزءً لا يتجزأ من نسيج المجتمع النابلسي، بل أجمل ما قيل في ذلك كلمات للكاهن الاكبر للطائفة الذي قال لنا: لقد اشتهرت مدينة بنابلس بثلاثة امور امام غيرها من المدن، الصابون النابلسي، الكنافة النابلسية، والطائفة السامرية، وفعلاً، يأتي آلاف السياح من مختلف قارات العالم لمدينة نابلس للتعرف على هذه الطائفة التي لا تزال تقاوم خطر الاختفاء إذ تعاني من قلة الفتيات وزيادة عدد الشبان، مما يشكل خطراً على استمرار وجودها خاصة في ظل ارتفاع نسبة المواليد ذوي الاعاقات الدائمة بسبب الزواج من الاقارب.
ومع غروب الشمس في الافق، ُتنحر الاضاحي في جو من التهليل وارتفاع الاصوات الى عنان السماء، جو مفعم بالحرارة الدينية التي عكست الايمان بالعقيدة، اندفع بعدها كل سامري الى تقبيل الآخر بإيمان المؤمن الذي قدم أضحية الى ربه متأملاً تقبل الله لهذه الاضحية بينما لا زالت الخراف تلفظ انفاسها على المذبح سائلة دماءها في مجرى الدم الخاص بها، ثم قام السامريون بوضع نقطة من الدم على جبينهم وغمسوا الدم بنبات أخضر وإندفعوا بعد ذلك الى إستكمال ذبح الخراف وتهيأتها الى الشواء الذي اشتهرت به الطائفة منذ القدم، الزرب.
قام رجال الطائفة بسلخ عشرات الاضاحي ووضعها على أعمدة خشبية حادة الاطراف يبلغ طولها قرابة الخمسة امتار، تمهيداً لوضع الاضاحي في حفر عميقة عريضة نسبياً تم تسخينها منذ ساعات لتصبح درجة حرارتها عالية جداً، يتم حرق كمية كبيرة من اخشاب الاشجار فيها ليصبح وهجها كبيرا ونارها مرتفعة الحرارة.
فوجئنا بطريقة إنزال هذه الاعمدة الخشبية الى حفر الزرب، حيث ُوضع كل خروف على عمود وتم انزالها جميعا في حفر ملتهبة في نفس الوقت وبدقة كبيرة وخبرة تفاجأنا بها وسط تهليل السامريين الذين نذروا نذورهم ودعوا الى الله ان يتقل اضاحيهم. تم إنزال القرابين دفعة واحدة بأمر من الكاهن الاكبر، ثم قام الشبان بتغطية الحفر بستار تمت تغطيته بصلصال لمنع تسرب الحرارة من داخل هذه الحفر الكبيرة وبقي الشبان حول هذه الحفر ساعات متواصلة بإنتظار نضج الاضاحي.
أعتقد ان تجربة الحياة المشتركة مع الطائفة السامرية في مدينة نابلس تثبت أن هذه المدينة واهلها متسامحون بعكس ما قد يشاع عنها احيانا هنا او هناك، إذ كيف استطاعت هذه الطائفة الصغيرة البقاء في مدينة ذات اغلبية مسلمة لولا دفاع المسلمين عنها في النوائب، السامريون مضيافون، طيبو القلب ويحبون خدمة الآخرين، وكثيراًما لجأ إليهم أهل مدينة نابلس للحصول على المساعدة، ولا يتدخلون فيما ليس من شأنهم.
عدنا عبر الحاجز العسكري الاسرائيلي الى أسفل الجبل، لنعود الى المدينة المحاصرة، لسنا وحدنا في حصار، بل هذه الطائفة أيضاً تعيش الحصار الذي يعزلها عن سفح الجبل الذي يحتضن مدينة نابلس، لقد دمر هذا الحاجز التواصل الثقافي بين الجيل الجديد من أبناء المدينة المسلمين والمسيحيين واقرانهم من ابناء الطائفة السامرية التي حظي الاجانب والسياح من مختلف قارات العالم بفرصة المشاركة في عيدهم بينما ُحرم عدد كبير من أبناء مدينتهم من مشاركتهم هذه الفرحة.
غادرت حي الطائفة السامرية من على جبل جرزيم وانا افكر بهذه الطائفة التي قد تختفي يوماً، وباختفائها سيختفي جزء هام من التراث النابلسي، إذ لا زال ابناء هذه الطائفة ملتزمون باللباس النابلسي التقليدي من قمباز وطربوش بل ويفتخرون بلهجتهم النابلسية العتيقة التي تمثل هويتهم، هويتنا.
***
جبل جرزيم، 9 ابريل/ 2009