هذه هي أول البركات.. أول الخطي الصائبة في عمر ذهب بعيدا في الغلط. ما أحلي الرجوع إليها، وما أصعبه في زمن السلام.. سلام المظلومين.
تحت المظلة الحديدية في موقف سيارات الجسر في العبدلي كنت أحرق اللفافة تلو الأخري، وأحاول مداراة خوفي بالحديث مع "العائدين"، وافتعال الغضب من طول الانتظار.. في الواقع كنت متهيبا من الصعود إلي السيارة وبدء الرحلة.
أين السيارة؟ ولماذا يجب أن أنتظر ساعات في الكراج بعد أن انتظرت سنين في الاغتراب لكي أري المدينة التي كانت حلما محبوسا في ذاكرة الطفولة، ثم صارت جمرة لوعة في قلب الغربة.
كم هي بعيدة نابلس، والطريق إليها مرصوف بحنين متعب. وقد أتعبتني الأشواق للمتخيل في المكان النابلسي.
كل نهاراتي تبدأ ظهرا، إلا هذا النهار الذي بدأ قبل أن ينتهي الليل. كنت جاهزا للرحلة في السادسة صباحا.. في يدي حقيبة صغيرة، وفي جيب سترتي وثائق وأوراق رسمية، وفي عيني نعاس ثقيل، أما قلبي فقد استبدل النبض بالرقص، أو هكذا أحسست به في ذلك الصبح الذي بدت فيه الغيوم وكأنها من ريش العصافير.
بعد الثامنة كنا علي الجسر الخشبي العتيق الذي يوحي باحتمال انهياره في أي لحظة تحت ثقل الحافلة، لكنه لا ينهار.. جسر متهاوي ومحاط بالقصب والعسكر، وكأن العبور لا بد أن يكون كئيبا، قبل أن يكون مهينا ومستــــفزا يكــــسر اللهفة بالغضب.
إثنا عشرة خشبة لنا، ومثلها لهم، ونعبر الجسر، لنمشي محدقين في التراب لأن السماء مرشومة بأعلامهم.. قليل من الإهـــانة اللفظيــــة لا يشطب اللهفة، فقد عرفنا الإهانة في كل الحدود والمعابر.. وعبرنا.
في السيارة لاحظت الحاجة الجالسة في المقعد الخلفي توتري وقلقي عندما اقتربنا من أول حاجز إسرائيلي علي الطريق المؤدي إلي أريحا، المدينة التي أحبها كثيرا لأنهم يكرهونها كثيرا.
كان عسكر تلك النقطة أبشع مما يمكن أن يوصف به كائن حائر بين الانسان والحيوان، وقد شممت رائحة كريهة عندما اقترب مني جندي ليتناول جواز سفري وتصريح المرور.. آنئذ تحول التوتر إلي تقزز، فغطيت فمي وأنفي بمنديل ورقي، مما أضحك الحاجة التي عرفت فيما بعد أنها والدة النائب الأسير حسام خضر، وعندما علمت يحفظها الله بأن حسام صديقي تمتمت بالدعاء لله أن يحفظنا جميعا.
نتوقف في مدينة النخل والموز والبيوت الصغيرة المكسوة أسوارها بالسعف، ونشرب عصيرا قرب الدوار الرئيسي الذي غطته يافطات الفصائل، ثم ننطلق نحو نابلس.
في الواحدة ظهرا كنا في كراج السيارات في نابلس، وكنت أدخن بانفعال وأنا واقف تحت سروة في انتظار حازم قريبي الذي تأخر في الوصول..
أتعبني قلبي، وكان الظهر النابلسي حاميا، فجلست تحت السروة لأستريح، لكن قلبي قرر أن يغفو، وغفا.
لما أفقت من الغيبوبة في دار قريبة نقلني إليها المارة، كانت صاحبة الدار العجوز تقرأ علي ما تيسر من آي الذكر، وتذكرت أوجاعي كلها.. فبكيت.
أجلستني صاحبة الدار علي كرسي خيزران في الشرفة القديمة، ورأيت الحياة التي تصر علي الحياة في وسط البلد. أصحاب المتاجر يقفون علي أبواب محلاتهم ينتظرون الزبائن.. والدولة المستقلة. عمال يجرون أكياس الطحين علي العربات. مسنون يجلسون علي كراسي الرصيف يسحبون أنفاس الأرجيلة.. يسحبونها من الزجاجات المزخرفة ومن الذاكرات التي غيمها الدخان فتلاشت تفاصيل الأيام الحلوة والزمان الذي راح.
رأيت صبايا يشترين الحقائب الصغيرة، وجوارب النايلون. ورأيت نساء يحملن أطفالا استسلموا للارتخاء في منتصف النهار. ورأيت فلاحين يتسوقون في المدينة بحياء تداريه الحطات البيضاء.
رأيت سيارة بيضاء تتوقف علي الطرف المقابل من الشارع، وتنزل منها ساحرة.. حركتها متوترة والتفاتاتها مفاجئة. كانت سمراء. شعرها أسود وفيه حمرة تلمع في الشمس. وجهها مستدير مثل صينية الفضة التي احتفظت ببريقها في صندوق جدتي سبعين عاما. ما الذي جاء بها إلي هذه الجنة المحتلة في هذا التموز الآثم؟
لم تكن هي. كانت مجرد نسخة نابلسية أيقظت في قلبي لهاثه.. فصحوت.
أحضرت خالتي أم شكري كأس الليمونادة، وسألتني عن اسمي.
- أنا ما زلت أبحث عن إسمي يا خالة، وأخالني نسيته قبل سبعة وثلاثين عاما تحت السروة. لقد بحثت عنه اليوم ولم أجده. إذا عثرتم علي اسم بلا صاحب تحت أي سروة فخبئوه لي حتي أجيء مرة أخري. وسأجيء.
لم تستطع أم شكري أن تدرك ما قلت.
شكرتها، وتركت كأس العصير وقلبي علي الشرفة، ومضيت.
هربت سنين كثيرة من ذاكرتي ومن عيني، وعدت طفلا يعرف نابلس مثلما كانت قبل أربعين سنة. بلا دليل ولا خريطة للطريق وصلت البلدة القديمة، وكنت أدخل أول حاراتها العتيقة، متكيفا مع انحسار الضوء والنتوءات التي تعيق المشي في الأزقة الضيقة المحاطة بشبابيك وأسطح كان ينتشر عليها رفاق "أبو طبوق" مسلحين بالبنادق، ويحددون مواقعهم بجمر السجائر التي تحترق طوال الليل حتي لا يحترق العدل في المدينة.
ذهب "أبو طبوق" واختفت ظاهرة "روبن هود" النابلسي، بعد اتفاق حصل بموجبه علي عفو رئاسي وسلم السلطة ثلاثا وتسعين بندقية.
سألت عن المبني الصغير النظيف في أول الزقاق، وقيل لي إنه استراحة صغيرة للرئيس حين يزور البلدة القديمة.
في السنوات اللاحقة سأعرف أن نسل الأسطورة القديمة فجر الحارة وأحرق البيت الصغير النظيف، والبيوت ذات الشرفات الصغيرةالمتلاصقة، والشبابيك، والهواء، وبصمات الأصابع التي كانت يوما علي زناد.. وقد تكومت الجثث في الزقاق، ولا أعرف إن كان بين الشهداء مقاتلون سابقون في جيش "أبو طبوق".
أخرج من عتمــة الزقاق إلي عتـــــمة الشوارع في المدينة التـي تستقبل المساء بلا ضجيج، وتأخذني سيارة الأجرة إلي بيت حازم لأنام.. وأنام متدثرا بالوحشة.
الصباح النابلسي يبدأ بالنوافذ.. نوافذ كثيرة متلاصقة تفتح علي الشمس بعد صياح الديك. أما النهار فلا يتثاءب.
في البيت الصغير المطل من بعيد علي الملعب البلدي، كان الكلام مختصرا قبل قهوة الصبح، وقد وقفت علي الشرفة دقائق لتستعيد رئتي رائحة الهواء هناك، وشممت ياسمينا مذابا في البارود.
ما أحلي الرجوع إليها..
ما أطيب الشاي الخفيف مع لقمة الرصيع (من أنواع الزيتون)، وصوت المذيع المبالغ في الوقار.. الراديو هنا لم يفقد هيبته بعد، وفي ساعات لاحقة سنتحلق حول الراديو لنعرف فقط من أعلن مسؤوليته عن العملية الأخيرة، ونعرف أنها حماس.. هنا، في هذا الشارع الصغير يعلو التكبير مع كل نشرة أخبار، وتقام صلاة الجماعة علي الإسفلت.
السلام عليكم ورحمة الله.. السلام عليكم ورحمة الله، وننطلق إلي السوق لأبحث عن بقايا ذاكرة الطفولة في حلويات العكر ومحلات البداوي.
للكنافة طعم آخر في نابلس.. حلاوة المدينة ببساطتها، ودفء ملقاها، وهذا شاب من جيل "العكر" الثاني أو الثالث يقدم صحن الكنافة لفلاح غريب بدون تعليق أو سخرية من "أهل القضاء".
هو القضاء والقدر الذي يفتح الطريق إلي نابلس بعد سبعة وثلاثين سنة، وهو الذي يعيد إلي أطراف أصابعي ملمس الخاكي في محلات البداوي.. لم يعد المتر بأربعة قروش، وليس في المكان أثر للصابرات اللواتي كن يقطعن المسافة الطويلة بين القري والمدينة "ليقطعن" قماش الخاكي الأخضر لتفصيل بدلات المدرسة للأشقياء الذين كبروا وتوزعوا بين منافي المعسكرات والشركات في دول "المواجهة" وفي دول النفط.
الخاكي ما زال هنا، لكن القماش في معظمه من الترجال والصوف الانجليزي.. والحرير.
أحن إلي الحرير الذي شرق النهر.. وأتنهد.
ہہہ
ما أحلي الرجوع إليها..
كانت أمي تأخذني إلي نابلس مرة كل سنة، لكي تشتري لي كسوة المدرسة، وكنت أجبرها بخبث طفولة الريف علي رحلة أخري حين أدعي وجعا في الأسنان. لم يكن في القرية طبيب، وكان الحل الوحيد الممكن بصعوبة هو الذهاب إلي العيادة في المدينة.
باص الشخشير كان يأتي مرتين في الأسبوع، وكنت أتمارض في الليلة السابقة لمجيئه لأضمن "السفر" في صباح اليوم التالي. وكانت الرحلة تعني كل مرة أن أخسر سنا أو طاحونة يخلعها الطبيب بلا تردد، وقد خسرت الكثير من الأضراس لكنني احتفظت بالنابين.. هل كنت أعرف ما ينتظرني في السنين اللاحقة؟
ہہہ
في المقهي القديم كان الشباب يلعبون الورق ويشربون الشاي ويحكون عن انتخابات اتحاد الطلاب في جامعة النجاح. لم أر مسنا في المكان، ولا أثر للطرابيش التي كانت تميز مقاهي المدينة بأحمرها الفاقع، وقد انتبهت أيضا إلي شتات اللهجات، ولم أسمع في المقهي مفردات نابلسية أصيلة. إنهم شباب جاءوا من القري ومن مدن أخري في الضفة ليكملوا دراستهم الجامعية، وهم نشطاء سياسيون منخرطون في العمل الوطني، ومنهم مطلوبون لسلطات الاحتلال، ولذلك لا يغادرون المدينة تجنبا لحواجز التفتيش الاسرائيلية.
يمكن للمرء أن يتمثل المكان عندما يعشقه، وقد صار هؤلاء نابلسيين مثلما صار آخرون غزيين.. كانت سيدة الحرير تجمع الجغرافيا علي راحتها الصغيرة وتمسح وجهي بعطر البلاد.
يحمر وجهي خجلا أمام طفلة في السوق تمشي مع والديها وتسألني عن اسمي وما الذي أريد شراءه؟ أريد شراء ذاكرة أخري.. هل هناك من يبيعني ذاكرة نيئة لكي أرتاح؟
في اليوم الثالث كنت علي موعد مع شباب وصبايا في الجامعة، كانوا من الوطنيين الذين شاركوا في إعادة تشكيل الهوية الفلسطينية في الانتفاضة الأولي، وقد استطاع هؤلاء بحكمة الخبرة أن يتجردوا تماما مما ارتدوه من ثوب عقائدي في السنوات السابقة، واهتدوا بحكم التجربة إلي صواب الخيار الوطني بعد سقوط الهوية القومية وتجاوز الأفق الديني حدود فلسطين من أجل الاستقرار في أفغانستان.
كانوا متوقدين حماسة، وواضحين حد اختصار الفلسفة العالمية في جمل محكية قصيرة تنم عن انتفاء الخشية والحذر من الآخر ومن نقده النظري السخيف.
قال أسامة: لدينا الكثير مما يميزنا، وقد خرجنا من حقب متعاقبة في المؤامرة دون أن نفقد شيئا من هويتنا ومن وضوح بصمتنا علي خارطة هذا الشرق الذي لا يمكن أن يكون أوسطا في شيء.
وعندما جاءت القهوة في الكفتيريا المكتظة كان عدد المشاركين في الحوار يكفي لخروج مظاهرة.. بقينا في الكفتيريا، لكن مظاهرة في مخيم بلاطة كانت تزداد اشتعالا كلما ردد "الهتيفة" اسم فاسد معروف، تولي موقعا أمنيا مهما في نابلس.
ہہہ
في هذا الشارع ضريح.. قبر تقول اسرائيل إنه مقدس ولا يلتفت إليه أحد، لكن المواجهة القادمة ستجعل القبر المزعوم هدفا عسكريا تشتعل حوله معركة تنتهي بسيطرة فلسطينية منتشية بعد قتل عدد من الجنود وأسر أكثر من أربعين عسكريا اسرائيليا.
لم تحل اللعنة ولم يكن هناك ما يوحي بكارثة العواقب الوخيمة للمساس بقداسة الضريح.. لكن ثقوب الرصاص في جدران المكان تبقي شاهدة علي انتصار كان كبيرا رغم صغر الحرب.
أمشي في الشارع القريب من مخيم عسكر حيث رصاص المعارك السابقة ترك بصماته علي أعمدة العمارات وعلي أبواب "الحواصل"، وعندما تنخزني معدتي أشتري كعكا بالسمسم.. وأمشي باتجاه المخيم. علي باب "عسكر" يجلس رجلان أمام دكان بقالة، يشربان الشاي ويدخنان. ألقي التحية فيرد عليها صاحب الدكان بكوب شاي وكرسي صغير لأنهي غدائي جالسا، ثم أنطلق إلي شوارع المخيم.
في المقهي المزين بملصقات الشهداء أشرب فنجان قهوة وأعود إلي الليل الأخير.. مودعا.
ہہہ
مثلما يطل الصبح من النوافذ، يدخل ليل نابلس من نوافذها المضاءة بمصابيح الحنين..والانتظار.
أستلقي علي السرير محدقا في سقف يرتفع أكثر كلما ركزت التحديق فيه، ثم يختفي تماما، ليظل سقف نابلس سماء مضاءة بالنجوم، والتماعات الذاكرة.
كاتب من الاردن
|