بقلم: علاء أبو ضهير
سرت بإتجاه منزله الصغير في احد أزقة مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في مدينة نابلس، ومن بين الازقة الصغيرة المليئة بالنوافذ والاطفال استطعت العثور على منزله، كان ابو ماجد أحد اللاجئين الذين إعتدت على زيارتهم كلما قمت بجولة في مخيم العين مصطحبا زواري من المتطوعين الدوليين الذين يزورون الاراضي الفلسطينية المحتلة للتعرف على الظروف المعيشية التي يمر بها الشعب الفلسطيني، كثيراً ما حدثنا ابو ماجد عن صباه في قرية الصفصاف الواقعة في اقصى شمال فلسطين على الحدود اللبنانية، حدثني عن قريته الصغيرة الخضرا، وحدثني عن فلاحيها البسطاء الذين كانو يزرعون أرضهم ويفلحونها ويحصدونها ويأكلون من ثمرها دون الاحتياج الى عون أحد.
وقفت أمام منزله وطرقت الباب، بينما كان اكثر من عشرين متطوع دولي يقفون خلفي بإنتظار ظهور أبو ماجد، ولكن لم يظهر ابو ماجد هذه المرة، بل ظهر حفيده شاحب الوجه وقال: ابو ماجد ليس هنا، لقد توفي قبل ايام قليلة، مات جدي، إرتبكت وحرت في أمري، كم كنت مشتاقاً للقائه والاصغاء الى أحاديثه، كم شعرت بالفخر مراراً وهو يتحدث الى الزوار الاجانب عن رحلة العذاب التي مر بها خلال نصف قرن من حياته في مخيمات اللجوء، بدأت التساؤلات تظهر على وجوه الشبان والفتيات الاجانب الذين كانو يتوقعون ان يدخلو المنزل للقائه، وقفت امامهم وقلت: انكم تقفون الآن امام منزل رجل بسيط من أبناء قرية الصفصاف إسمه ابو ماجد، كان ابو ماجد في العشرين من العمر يوم نادى المنادى بالرحيل عن قريته، خرج فلاحو قريته عن بكرة ابيهم مسرعين نحو الشمال، حين دخل الغزاة من الجانب الآخر للقرية مثيرين الرعب والقتل والدمار لكل ما صادفهم، لقد رأى ابو ماجد بأم عينيه كيف جمع الغزاة خمسة عشر شاباً من شبان القرية وقاموا بقتلهم ثم وضعوهم في حفرة كبيرة ثم اغلقوها بالتراب، أثار هذا الحادث الرعب في قلوب الفلاحين، وإقترنت لديهم صورة اليهودي بالقاتل الذي لا يرحم، حدث ذلك في ربيع عام 1948 اي بعد حوالي اربعة سنوات من مقتل ملايين اليهود علىايدي الوحش النازي، حين كان اليهودي ضحية، وها هو الآن جلاداً، هرب ابو ماجد من منزله مسرعا، وكانت ابنة شقيقة برفقته، لم يكن لديه اي وقت للقاء عائلته والتنسيق معها حول آليات الرحيل واساليبه، لم يكن هناك وقت لهذا الترف، فقد كان رصاص الغزاة قويا وسريعا.
اسرع ابو ماجد بدخول قرية قديثا داخل الحدود اللبنانية، كانت ابنة شقيقه برفقته طيلة لحظة مغادرة الصفصاف، لكنه فقدها تحت ازيز الرصاص ومدافع عصابات الهاجاناه، لم يستطع العودة لعبور حدود فلسطين والبحث عن ابنة شيقه، وقف اياماً على الشريط الحدودي آملاً ان يجدها، ُترى ماذا سيقول لوالد البنت التي لم تبلغ الثامنة من عمرها بعد، بقي ابو ماجد باحثاً عن ابنة شقيقه من مكان لمكان، كان يقفز بلهفة لدى مشاهدته مجموعة اخرى من اللاجئين تعبر الحدود، بحث عنها في كل مكان يستطيع الوصول إليه، وبينما كان اللاجئون منشغلون بتدبير امورهم في الخيام التي ُمنحت لهم على الجانب اللبناني من الحدود، كان ابو ماجد يتنقل بين خيام اللاجئين للبحث والاستفسار عن الطفلة المفقودة.
انتقل ابو ماجد الى احد مخيمات اللجوء في لبنان، وعاش ردهاً من الزمن، حاول خلالها التخلص من الم الضمير الذي رافقه طيلة الوقت، لقد رآها في منامه كثيراً وهما يركضان تحت القصف والقتل، أصبح مشهد الرحيل كابوساً يلاحقه في حله وترحاله، لم يهنأ له بال طيلة تلك الفترة من التشرد التي قادته للعيش في مخيمات الاردن لفترةاخرى من الزمن لينتهي به المطاف بعد سنوات من العذاب الى مخيم العين في مدينة نابلس.
اصغى الزوار الاجانب بإهتمام كبير الى القصة التي ارويها في ذلك الزقاق ، وقام بعضهم بتسجيل كلماتي، كانت رواية شفوية لقصة لا تستطيع إلا الانحناء امام آلام شخوصها، كم تمنيت لو امتلكنا الاحتياجات اللازمة لتحويل قصص كثيرة كهذه الى افلام سينمائية لا تقل انسانية وقوة عن أي من قصص المعاناة التي مر بها اي شعب تتم تغطية معاناته بانتاج عشرات الافلام السينمائية.
بقي ابو ماجد في منزله الصغير في مخيم العين، كان قد تزوج وانجب بناتا وشباناً، مر به الزمن وبلغ السبعين من العمر، تحدث كثيراً لابنائه عن ابنة عمهم التي فقدها يوم الرحيل وحمل معه مسؤولية ضياعها ولم يتوقف عن تأنيب نفسه وتوبيخها على ضياع ابنة شقية.
وفي يوم من الايام، ُقرع هاتف منزل ابو ماجد، أمسك ابو ماجد بسماعة الهاتف ليسمع صوت سيدةٍ على الطرف الآخر، قالت كلمة واحدة: عمي، وصمتت، قال لها أأنت عائشة؟ قالت نعم، ها قد عدت يا عمي، سألها ابو ماجد عن يوم الرحيل، أين ذهبت يوم كنت معي، يوم ركضنا على الجبال هربا الى قرية قديثا، قالت له: لقد وجدت عائلة راحلة الى لبنان يوم فقدتني، وتبنتني هذه العائلة وعشت معها في مخيمات اللجوء، ثم تزوجت وها انذا اعود الى الاراضي الفلسطينية، لقد عدت الى قطاع غزة بموجب اتفاق اوسلو، ولكن عودتي لن تكتمل الإ برؤيتك، لقد عشت محرومة من العائلة وفقدت اسرتي ولم يتبق لي غيرك.
تواعد ابو ماجد مع ابنة شقيقه على اللقاء في محطة سيارات مدينة قلقيلية، حيث تأتي السيارات القادمة من قطاع غزة، ذهب ابو ماجد قبل الموعد بعدة ساعات مصطحباً معه ولديه، وبقيا ينظران الى كل سيارة اجرة قادمة من غزة، ليندفع بإتجاها محاولاً التعرف على ابنة شقيقه، وتساءل في نفسه: ُترى كيف اصبح شكلها الآن؟ لا بد ان تكون قد بلغت العقد السادس من العمر، لكن صورة الطفلة الصغيرة هي التي أراها، لم أرها منذ ذلك الحين، هل ستعرفني؟ وهل ستتذكرني جيداً عندما كنا نلعب في حديقة بيتنا في الصفاف؟ اسئلة كثيرة ساورت ابا ماجد وهو ينتظر وصول السيارة من غزة، كانت تلك الساعات طويلة جداً، ما اصعب لحظات الانتظار!
وبعد ان بدأ ابو ماجد وإبنيه بفقدان الامل، جلس على احد الارصفة ووضع يده على خده، بدأت مشاعر اليأس تتسرب اليه، وإذا بسيارة اخرى تتوقف، يهرع ابو ماجد اليها ليرى سيدة في العقد السادس من العمر، تخرج من السيارة وتنظر إليه نظرات ملؤها الأمل، كانت تسأل نفسها إن كان هذا عمي ام لا، فتح ابو ماجد ذراعيه وقال: عمي وفتحت عائشة ذراعيها وقالت باكية: عمي، واجهش كلاهما بالبكاء امام استغراب المارة الذين تسمرت عيونهم على هذا المشهد التراجيدي الذي تكرر كثيراً في الحياة اليومية لشعب تشتت في كل بقاع العالم ليوفر وطناً لشعب آخر.