نابلس، المدينة التاريخية العريقة، تتعرض على مدى السنوات الثلاث السالفة لهجمة صهيونية مرعبة على مختلف الصعد الاقتصادية والاجتماعية والأمنية.
حصارها يطول والدبابات والمجنزرات والعربات العسكرية لا تبرح شوارعها وشوارع مخيماتها، والتنكيل بالناس لا يتوقف ولا يهدأ.
أعمال القتل والتدمير والتخريب ونسف البيوت عبارة عن ممارسة صهيونية شبه يومية، هناك مدن وقرى أخرى في الضفة وغزة مثل رفح وجنين تتعرض لهذه الهمجية الصهيونية المتوحشة، وهي لا تكاد تهدأ أمام الهجمات المتكررة.
تستهدف (إسرائيل) مدينة نابلس سكانا وحضارة وتاريخ. المدينة تاريخية ويعود بناؤها إلى عهد الكنعانيين الذين حطوا في أرض الشام حوالي العام 2500 ق. م.
بنى الكنعانيون المدينة وأسموها شكيم، الاسم الذي حوره العبرانيون القدامى إلى شخيم. يقول بعض المؤرخين أن سيدنا إبراهيم الخليل قد حط في المدينة بعد عبوره نهر الأردن غربا وقبل أن ينتقل جنوبا نحو جبل الخليل تعاقبت على المدينة حضارات متعددة مثل الفرعونية والهكسوسية واليونانية والرومانية.
انتشر فيها يهود من المذهب السامري، وهم الذين يؤمنون فقط بالكتب الخمسة الأولى من كتاب التوراة الموجود بين أيدي اليهود الآن، ويعتقدون بأن المقدسات اليهودية تقع على جبل الطور (الجبل الجنوبي للمدينة أو ما يسمى بجرزيم) في نابلس. انتشرت فيها المسيحية قبل أن يأتي الفتح الإسلامي عام 636 م.
لم تبخل أي حضارة على نابلس بوضع آثارها ولمساتها الحضارية. تجد في مدينة نابلس آثارا كنعانية متمثلة ببلدة شكيم الأصلية، وأخرى يونانية ورومانية وبيزنطية ومسيحية، والكثير من الإسلامية
. تتميز المدينة ببلدتها القديمة التي تعتبر من أقدم وأعرق البلدات القديمة في بلاد الشام، وهي تضاهي البلدات القديمة في حلب والقدس وحماة. كل بناية في هذه البلدة، بل كل حجر ينطق بالتاريخ ويحكي قصة. فيها العمران المتنوع الأنماط والشوارع المسقوفة والبنايات المكيفة بطريقة بنائها والحمامات والمشربيات وأسواق الشرق الزاخرة بالحياة.
يقع خارج أسوار المدينة القديمة المدرج الروماني والآثار الرومانية المتميزة بالأعمدة والأكاليل، وترى المساجد بمآذنها الشامخة تنطق بالروح الإسلامية الحقة التي يتميز بها أهل المدينة. نابلس عبارة عن غابة من النجاح الوطنية التي تعتبر في مقدمة الجامعات العربية لما تتميز به من انفتاح فكري وعلمي المآذن تشهد على كبرياء المدينة والتزامها.
أما على جبل الطور، فترى الآثار السامرية والبيزنطية والإسلامية ممتزجة معا لتشهد على تعاقب الحضارات.
وعلى بعد قليل من المدينة تقع قرية سبسطية التي تزدحم فيها آثار الأنبياء لتمتزج مع آثار الحضارات.
على المستوى العلمي، احتضنت المدينة العديد من العلماء مثل أبناء بني قدامة الذين انتقلوا إلى دمشق ليثروا حضارة الشام. وقد كثر فيها المؤلفون بخاصة في الأمور الدينية. وفي وقتنا هذا، ظهر في نابلس الأدباء والشعراء والعلماء والصروح العلمية.
أقيمت فيها مدرسة النجاح والتي تحولت إلى كلية معلمين يرتادها العرب من مختلف الأصقاع، ومن ثم أصبحت جامعة.
وعلى المستوى الاقتصادي، قدمت نابلس لأرض الشام منتجات هامة جدا ما زالت في صدارة المواد المتداولة على مستوى الوطن العربي. قدمت نابلس الكنافة النابلسية والصابون النابلسي والحلاوة الشامية. وأبدعت في الحرف الخزفية والنحاسية والخشبية.
وقد تحولت مع الزمن إلى مركز تجاري هام تربع على قمة المراكز التجارية في فلسطين. وقد أبدع أهلها تجاريا بحيث انتشروا في أماكن عربية كثيرة وحولوا نابلس إلى عاصمة مالية تتحدد فيها أسعار العملات وأسهم الشركات.
أما على مستوى العمل الوطني فلم تكن نابلس أقل شأنا فقد كافحت نابلس وجبلها الذي يشمل قضائي طولكرم وجنين ضد الانتداب البريطاني، وعرفت هي ومدينتي طولكرم وجنين بمثلث الرعب الفلسطيني بسبب اشتعال الثورة فيها في مواجهة الانتداب البريطاني.
استمرت مدينة نابلس في نضالها بعد سقوط فلسطين عام 1948، وعرف عنها الريادة في القومية العربية والدفاع عن وحدة العرب. وطالما وقف أهلها يتحدون الأنظمة العربية القطرية من خلال المظاهرات والتنظيمات الحزبية والبيانات. وعرف عنها أنها قلعة ناصرية لا ترى في التفرق العربي إلى ضعفا سيؤدي إلى نتائج وخيمة على الأمة.
تصدرت نابلس النضال الوطني ضد الاحتلال الصهيوني منذ عام 1967. منها انطلقت تنظيمات فلسطينية، ومنها يصدر القرار الوطني. تواجدت فيها قيادات وطنية كثيرة، وبرز على أرضها آلاف المناضلين الميدانيين الذين تحدوا الاحتلال وقدموا أنفسهم فداء للقضية في سبيل الله. وبعد اتفاقية أوسلو وما تلاها من اتفاقيات، كانت نابلس رائدة في تأجيج الصراع ضد الاحتلال ورفضت أن يكون الفلسطينيون حراسا على أمن إسرائيل. وقف شبابها وشاباتها في مواجهة الاحتلال وهم يعلمون ثقل المهمة، فسقط منهم من سقط، لكن اللواء لم يسقط. وقد خرج من المدينة العديد من الشبان الذين نفذوا عمليات استشهادية ضد العدو.
يرى العدو الصهيوني في مدينة نابلس كنزا فلسطينيا يمد الفلسطينيين دائما بالإبداع الوطني والتجاري والعلمي والاقتصادي. إنها مدينة أثبتت أنها تتحلى بروح متجددة لا تسمح بعلم فلسطين أو العروبة أو الإسلام أن ينحني أو يسقط. فكلما ظن الاحتلال أن الأمور قد سويت لصالحها وجد نابلس كماشة على رقبته.
ولهذا وضع الصهاينة المدينة تحت الحصار المحكم منذ بداية الانتفاضة. تحيط الحواجز الصهيونية بالمدينة وتغلق كل المداخل، وينتشر الجنود الصهاينة على الجبال وفي الوديان لمنع حركة الناس. خنق الاحتلال المدينة ظنا منه أنها ستركع. إنه يداهم المدينة غالبا كل ليلة ويعيث فيها الفساد.
كان آخر أعماله الهمجية فجر السادس من تموز/2004 عندما قتل أستاذا جامعيا من جامعة النجاح وابنه بدم بارد عن قرب، واغتال شابين آخرين. إنه يتحدى إرادة المدينة، وهذه السنين تمر وإرادتها تزداد صلابة.
المدينة صابرة وصامدة، لكن لها عتب؛ وإذا ذرفت دمعا فليس بسبب مدرعات العدو وإنما بسبب إهمال ذوي القربى وتجاوزهم لهموم المدينة. لا تحظى المدينة بما تستحق من العون والاهتمام. حتى وسائل الإعلام تتردد حتى الآن في إقامة مراكز لها في المدينة وتفضل البقاء حيث القرار السياسي. هذا علما أن القرار الوطني هو الذي يقرر مجريات الصراع ضد الاحتلال وليس القرار السياسي الذي يتهاوى دائما أمام ضربات المقاومين.