كثيرة هي العادات الجميلة التي دفنت تحت رحى التكنولوجيا والتطور، وبات الحديث عنها استرجاعًا للذكريات التي نتمنى أن تعود يومًا.. أو أنها اندمجت مع روح العصر وتأقلمت معه في حفاظها على سماتها الأساسية. و"الشعبونية" -نسبة إلى شهر شعبان- من العادات التي تميز بها أهل مدينة نابلس عن سواهم في بقية المدن الفلسطينية، وحافظوا على ديمومتها عبر السنين.
ومع عدم وجود تعريف متفق عليه للشعبونية فإنها عادة دأب عليها النابلسيون منذ عشرات السنين، حيث يقوم "كبير العائلة" -أو من ينوب عنه من أبنائه- بدعوة صلة أرحامه كأخواته وبناته وبنات أعمامه وبنات عماته، وفي كثير من المرات يدعو عموميته من النساء وخاصة المتزوجات لأصهار غرباء عن العائلة، برفقة الأطفال الصغار، إلى الإقامة في بيته مدة تتراوح من ثلاثة أيام إلى أسبوع تُعَدّ فيها الولائم -للمقتدرين طبعًا- وتقام السهرات الليلية والحفلات العائلية السامرة، وتعيش تلك الأسرة الكبيرة في هناء وسرور.
ومع أنها قد تبدو مقتصرة على الميسورين والأغنياء فإنها كانت منتشرة بين العائلات المتوسطة والفقيرة، لكن اتساعها لم يكن باتساع الفئة الأولى، فكانت مقتصرة على الرحم القريب دون البعيد، ولثلاثة أيام لا سبعة وعلى ما يوجد من طعام "عدس ومجدرة" لا الولائم والأطباق الشهية، وينام الجميع بعد العشاء فورًا، فلا تستمر لوقت متأخر...
يوميات الشعبونية
الحاجة أم حسني العبوة -68 عامًا- تستذكر تلك الأيام، فترتسم على وجنتيها ابتسامة أمل، وتقول: "أذكر عندما كان يأتي جدي وأخوالي إلى بيتنا أول شهر شعبان، ويدعون والدتي للحضور في أول خميس من الشهر لقضاء الشعبونية عندهم، وأجلس أعد الأيام لليوم الموعود؛ لأنني سألتقي بالبنات من جيلي، نلعب ونلهو في ساحة المنزل وحول بركة الماء".
وتضيف "أن النساء كن يستيقظن من الفجر، ويقمن بإعداد الخبز، بتقاسم الأدوار، بعضهن يجلبن الطحين وأخريات يقمن بعجنه بأيديهن وتقطعيه، وفئة ثالثة تخبزه على الطابون والصاج، بعدها تجتمع العائلة لتناول طعام الفطور؛ لتبدأ بعدها معركة ترتيب البيت وتنظيفه".
وتتابع "أن النسوة كن يعملن بجد وتفانٍ كبيرين دون تعب أو ملل، وما إن ينتهين من التنظيف حتى يجتمعن في المطبخ لإعداد وجبة الغداء التي سيشارك بتناولها الجميع ذكورًا وإناثًا.. وتبدأ رائحة الطبيخ الفواحة تنتشر في كافة أرجاء الحي، وتكتمل الفرحة بالاجتماع على مائدة واحدة تمتد عبر الساحة الكبيرة تظلها الأشجار ودالية العنب، ولا تسمع سوى خرير الماء الخارج من نافورة البركة أو ارتطام المعالق بصحون الطعام".
وتشير إلى أن النسوة برغم الأشغال الشاقة في ساعات النهار فإنهن يتزين ويلبسن أجمل ما لديهن من ملابس، في ساعات المساء، ويجتمعن على ضوء القمر، يتسامرن ويتحدثن ويستمعن إلى القصص والنوادر، ولا تخلو السهرة من الرقص الشعبي على صوت الطبل والدف بأداء جماعي جميل ومنسق.
رمضان يُصلح ما أتلفته الشعبونية
وفي كتابه "نابلسيات من بواكير الذكريات والوجوه والصور الشعبية" يصف الكاتب النابلسي مالك فايز المصري عادة الشعبونية عند أهل نابلس فيقول: "في شهر رمضان يعمد الصائمون إلى تفادي أنواع من الأطعمة، تلك التي تزيد عطشهم وتنفخ بطونهم فيمتنعون عن أكل الموالح والأطعمة الحريفة، ويقللون من تلك المولدة للغازات أو التي إن أكلت مع الحلوى الرمضانية تسبب تلبكًا في المعدة والأمعاء، ولما كانت مثل هذه الأطعمة رغم مساوئها لذيذة شهية فقد جرت العادة أن يكرس شهر شعبان لمثلها، فإذا تلبكت المعدة فشهر رمضان كفيل بإصلاحها -صوموا تصحوا- فهو شهر الراحة والأطعمة المختارة.
ويتابع قائلاً: تقبل النسوة إلى هذه "الشعبونيات" – وأنا هنا أسجل الكلمة كما هي دارجة، بينما تفرض القاعدة اللغوية بأن تسمى "شعبانيات" أي فرحات مسرورات.
وإذا كان الرجال مطالبين في الأعياد بزيارة بناتهن وقريباتهن لتقديم العيدية النقدية لهن، فكان لا بد من وجود مناسبات تقوم فيها تلك النسوة بزيارة "بيت العيلة" بدعوة منهم، وكان من هذه المناسبات شهر شعبان لقضاء أيام "الشعبونية".
صلة رحم وأشياء أخرى
ويضيف مالك في كتابه: "لست على يقين من أن دعوة النسوة هي بحافز صلة الرحم أو للمشاركة في إعداد الطعام المتنوع الذي يتطلب عددًا وفيرًا من النسوة الماهرات، ولكنني أميل إلى الجمع بين الحافزين بدليل أن صلة الرحم كانت أمرًا شائعًا، وتعتبر من علامات المروءة والشهامة".
وهناك أسباب أخرى للدعوة إلى الشعبونية مثل اختيار العروس والتعرف عليها عن قرب، فعندما كانت إحدى النساء تريد تزويج ابنها كانت تستغل وجود عدد كبير من النساء أيام شعبان؛ لتشاهد المخطوبة عن قرب، وتتأكد من مهاراتها البيتية الأخرى كالطبيخ والتنظيف، والتضييف، والسلوكيات الأخرى.
كما كانت الشعبونية تمتد لتشمل دعوات إلى "الحمام" للاغتسال، فمن المعلوم أن الحمامات -ونابلس مشهورة بها- كانت المكان الوحيد والمفضل لاجتماع الناس للاغتسال الأسبوعي، وكان هناك مآرب أخرى عند النساء في ارتياد الحمامات للاطلاع عن كثب "فحص فسيولوجي غير مباشر لأجساد البنات المراد خطبتهن".
خلية لصلة الرحم
يقول الشاعر والكاتب الفلسطيني لطفي زغلول: منذ اليوم الأول من شهر شعبان تتحول مدينة نابلس إلى خلية "صلة رحم" تتمثل في دعوات إلى تناول طعام الغداء ليوم أو يومين أو أكثر حتى أسبوع.
والمدعوون إلى مثل هذه الولائم يكونون في العادة من الأهل والأقرباء، حيث يدعو رب العائلة بناته المتزوجات وأسرهن لتناول طعام الغداء. وفي العادة يبيت هاتيك البنات عند أهلهن بصحبة أبنائهن وبخاصة إذا كانوا صغارًا، أما الأزواج فكانوا يتناولون الطعام ولا ينامون في العادة عند أهالي زوجاتهم.
كما أن الدعوات تشمل الأخوات سواء كن متزوجات أو غير متزوجات وكذلك العمات والخالات، كما أن هذه الدعوات كانت تشمل كثيرًا من الأقرباء البعيدين.
ولم يكن هناك أي استثناء إلا في حالات الأسر الفقيرة والمعدمة التي قد يجود الكثيرون بتقديم واجبات الشعبونية لهم ولكن ليس باسم الشعبونية. بمعنى آخر هي نوع من الصدقات. أو هناك من يتبرع بالمال لمعيل لكي يقوم بواجبات الشعبونية على أهله.
أكلات الشعبونية
ومن أشهر أطعمة شهر شعبان أكلة الكوارع "الرؤوس والمقادم والكرش"، وأصناف الكبة واليخنة النابلسية والفسيخ والمفتول والمحاشي، فيجلس النسوة من أصحاب البيت والمدعوات كل تشارك في جانب من جوانب إعداد الطبخة وهن مرحات مسرورات لفرصة الاجتماع بما لا يقل عن فرحتهن بالأطعمة النادرة التكرار.
وتتبع "التحلاية" وهي أما الكنافة النابلسية المشهورة وأما الكلاز أو ما يسمى بالكلاج المحشو بالجبن النابلسي أو المكسرات كالجوز، أيضا البقلاوة وأنواع أخرى من الحلويات، وجبات الغداء، تليها القهوة السادة لاعتقادهم أنها تساعد على الهضم.
وفي ساعات المساء والسهرة التي قد تمتد في الصيف إلى الفجر، تجتمع الأسرة والضيوف في ساحة المنزل بجوار نوافير الماء، يتحدثون عن يومهم، ثم يستمعون إلى الطرائف والنوادر من بعضهم البعض، كما أنهم يستمعون ويستمتعون بالدق على العود والطبل بمصاحبة الأناشيد والأهازيج الشعبية:
أمه يا أمه يخليه أمه سبع كناين تدخل على أمه
جابتلي الفقوس وما بأكل فقوس حية بسبع روس تقرصلي أمه....
وقبل أن تنتهي "اللمة" يكون الأطفال الصغار قد ناموا في أحضان أمهاتهم من التعب والإرهاق، فهم طوال اليوم يلعبون ويلهون.
ليلة الشعلة
ولم يكن شهر شعبان يقتصر على الشعبونيات، فهناك عادة أخرى كان أهل المدينة يحتفلون بها سنويًّا، وهي "الشعلة" وتكون في ليلة الخامس عشر من الشهر الفضيل، وكان أهل المدينة يحتفظون بالرماد الناجم عن وقود التدفئة فيعبئونه بالعلب "كيل" ويصفون هذه العلب المعبأة بالرماد على حواف أسطح بيوتهم، ثم يصبون عليها قليلاً من الوقود السائل "الكاز" ويشعلونها.
وكان هناك نفر آخر من الأطفال والشباب يحملون هذه الشعلات ويطوفون في شوارع وأزقة المدينة القديمة وهم ينشدون أناشيد دينية خاصة في المناسبة ترافقهم في كثير من الأحيان "العدة"، وهي مجموعة من الشيوخ المنتمين إلى الزاوية الصوفية فيحملون الطبول والصاجات والسيوف والرايات ويطوفون في طرقات وقصبات المدينة وهم يقرعون هذه الطبول والصاجات حتى ساعات متأخرة من الليل.
يقول الكاتب محمد عزة دروزة في كتابه "مذكرات وتسجيلات مئة عام فلسطينية" عن ليلة الشعلة: "إن القدماء كانوا يروون عنها قصصًا، بأن الله يقسم أرزاق الناس وأعمارهم للسنة الجديدة في هذه الليلة.. ويضيف أن هذا الاعتقاد جعل دائرة الأوقاف وقتها توظف أشخاصًا بمرتبات سنوية زهيدة عليهم أن يقوموا بدعاء ليلة النصف من شعبان ويبتهلون للمسلمين بعد صلاة المغرب في المساجد، على أن يتغمدهم الله برحمته وتيسيره".
الشعبونية الحالية
بالطبع فإن الشعبونية ليست فرضًا، ولكنها عادة أصبحت تقليدًا وما زالت نابلس تؤديها وإن تطورت حيثياتها وأشكالها؛ إذ إن هناك من العائلات من تقدم المال أو الهدايا لبناتها أو القريبات الأخريات.
ورغم طبيعة الحياة وتسارعها ما زال أهل نابلس متعلقين بهذه العادة، وما زال كثير من العائلات يدعون أقاربهم لتناول طعام الغداء في شعبان، لكنها اختلفت في كونها باتت تقتصر على يوم الجمعة، فبعد الصلاة يجتمعون في بيت الداعي يتناولون الأطعمة المقدمة وينتظرون الكنافة ولا تكاد الشمس تغرب حتى يعود الجميع إلى بيته.
|
||||
|
||||
|
||||
|
||||
|
||||
|
||||
|
||||
|
||||
|
||||
|
||||
|
||||
|
||||
|
||||
|
||||
|
||||
|
||||
|
||||
|
||||
|