ولعل من أهم ما اذكره من المشاهد النابلسية في طفو لتي ،تلك المشاهد التي كانت تمر أمام ناظري كل عام في العيدين،واعني هنا بالعيدين،عيد الفطر وعيد الأضحى اللذين اصطلح الناس على تسميتهما بالعيد الصغير والعيد الكبير.
والاحتفالات بالعيدين تتشابه، باستثناء أن العيد الكبير تقدم فيه الاضحيات، لا سيما من قبل الذين سبق لهم أن أدوا فريضة الحج.
في ليلة العيد،لا يأوي الأطفال إلى مضاجعهم إلا بعد أن يطمئنوا إلى أن ملابسهم "ملابس العيد" جاهزة ،فيرتبونها قريبا من أماكن نومهم لارتدائها بسرعة في صبيحة العيد.
ها هو الفجر يوشك أن يطل يستيقظ أهل الدار وتدب الحركة في أرجاء المنزل، ويسرع الأولاد لارتداء ملابس العيد، ويتعطرون ليرافقوا آباءهم إلى صلاة العيد.
ها نحن أربعة إلى خمسة من الأخوة نسير إلى جانب أبينا نرافقه إلى الجامع، وبينما نحن في الطريق يطلب منا أن نبتعد قليلا عنه دون أن ندري لذلك سببا فنتشبث في الاقتراب منه،وما هي إلا لحظات حتى يتقدم منه احد الرجال مباركا بالعيد، ويبادر بسؤال والدي عن الصبية الذين يرافقونه.فيجيب والدي أن أحدا فقط ابنه أما الآخرون فإنهم أصحابه من أبناء الجيران،ونستأنف السير،وأسال والدي عن السبب الذي من اجله ادعى أننا لسنا جميعنا أبناؤه، فيجيب أن هذا الرجل معروف بان عينه تصيب،وانه حسود، ولقد رأيت أن أحميكم من عينه.
نتقدم في مسيرتنا باتجاه الجامع، وفي الطريق يقابلنا الشيخ العسلية وقد انتحى ركنا قريبا من البوابة الشرقية للبلدة، وراح يسبح ويرتل أشعارا اذكر منها:
يا من بدنياه اشتغل وغره طول الأمل
الموت يأتي بغتة والقبر صندوق العمل
ثم يتبعها بترديد بعض أسماء الله الحسنى بصوت مرتفع، ويركز على كلمة قدوس، يكررها مرات عديدة،فيقودنا والدي إلى حيث يقف الشيخ ،فيضع يده على رؤوسنا ويتمتم ببعض الأدعية، وكان يقال لذلك (التخريج)فيناوله والدي ما تيسر من النقود مطمئنا إلى أن ذلك يدرا عنا الحسد.
وأخيرا ندلف إلى الجامع الكبير من بوابته الشرقية،ونخلع أحذيتنا عند الباب الداخلي ونأخذ أماكننا اقرب ما يكون إلى المنبر،إننا على وضوء، فلنباشر الصلاة،ولنجلس لنستمع ونشارك في ترديد(نشيد)العيد الذي يهز المشاعر ويبعث الشعور بالرهبة من الخالق،والعزة والفخر بالانتماء إلى هذا الدين العظيم الله اكبر الله اكبر،لا اله إلا الله،الله اكبر ولله الحمد، الله اكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا، نصر عبده، واعز جنده وهزم الأحزاب وحده، لا اله إلا الله ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين، ولو كره الكافرون.
اللهم صل على سيدنا محمد، وعلى أصحاب سدنا محمد، وعلى أزواج سيدنا محمد وعلى ذرية سيدنا محمد، وسلم تسليما كثيرا.
هذا النشيد الذي يتناوبه المصلون بإيقاع منتظم وبأصوات عامرة بالإيمان، وهو بهجة العيد حقا، كيف لا وهو يذكرك بأمجاد الإسلام وانتصاراته على مر العصور والدهور.
وأخيرا قامت الصلاة –ثم السلام عليكم ورحمة الله، ويسرع كثيرون بالخروج من الجامع ،بينما ينتظر آخرون للاستماع إلى خطبة العيد.
نخرج من الجامع باتجاه المقبرة الشرقية، وفي الطريق الوالد التهاني مع من يلقاهم في طريقه، ويوزع الحسنات على المساكين القابعين في أطراف الطريق، وأخيرا نصل إلى مقبرة العائلة حيث يلتقي أفرادها في ذلك المكان ويتحلقون حول القبور التي غرست فوقها سعف النخيل ،ويتلون سورة ياسين ومقاطع من السور الأخرى ،ثم يهللون ويكبرون ويقرئون الفاتحة على أرواح الموتى.
وننتقل إلى مكان آخر في المقبرة حيث قبر الوالدة، فنقرا الفاتحة على روحها، ومن ثم نتوجه إلى المنزل لتناول الفطور.
لا نكاد ننتهي من طعام الفطور حتى نطالب بالدفعة الأولى من العيدية ،من الأب والأعمام –بضعة قروش من كل منهم ،لننفقها على ملذاتنا الطفولية في أول أيام العيد . هيا بنا إلى الساحات التي تنصب فيها المراجيح (الشقليبات) ونتدافع حول أصحابها لنحجز أدوارنا في التمرجح والتشقلب ، ويا لها من متعة تحملنا على مطالبة صاحب المرجيحة بان يسمح لن ا بمزيد من الأشواط مجانا.
نهبط من المراجيح والشقليبات ، ونتوجه إلى تجمعات الباعة المتجولين – هذا يبيع حلوى شعر البنات ،وهذا يبيع الكعكبان ، والشيخ أنيس قد نصب مطرباناته الزجاجية وجراره الفخارية على نصبه خشبية ، يبيع أنواع المخللات المصبوغة بألوان جذابة وأمامه زبدية من الخردل المهروس لمن أراد غمس المخلل فيه واغناءه بنكهة إضافية ، ولك أن تشرب من مرقه المخلل الشهية بالقدر الذي تريد ، ولا تنس أصناف الحلاوة والنقارش وغير ذلك من الأصناف الأخرى.
والى صندوق العجايب "إما تفرج يا سلام ،على عجايب الزمان" نجلس على دكه خشبية ،وأمامنا صندوق له أربع أو خمس فتحات ،نطل من خلالها إلى داخل الصندوق الذي يقف وراءه صاحبه ويحرك بكرة في يده فتتوالى بعض الصور داخل الصندوق ،وصاحب الصندوق يردد "إما تفرج يا سلام....على عجايب الزمان ،هذا أبو زيد الهلالي ، وهذا عنترة بن شداد ، وهذه ست الحسن والجمال ، وفاطمة المغربية....الخ ، انه سينما ذلك العصر وإحدى تسلياته.
والآن إلى أين ؟ ها هم الأطفال يتجمهرون حول سيارتين - ربما كانتا الوحيدتين في البلدة- ويعتلون ظهر احدهما التي كانت من نوع الشاحنات الصغيرة فتكتظ بهم عن آخرها ،بينما يندس الآخرون في السيارة الأخرى وتقفل عليهم الأبواب ، وبعد أن يدفع كل طفل أجرة المشوار حول وادي التفاح ، تنطلق بهم السيارة والأطفال يمرحون ويرددون الكلمات المنغمة ولا ننسى قولهم " تعدم مرتك يا سنونو " ، ولعل "سنونو " هذا كان صاحب إحدى السيارتين ،ويعود الأطفال من المشوار وق استمتعوا بركوب السيارة للمرة الأولى في حياتهم ،مع أن بعضهم قد أصابته دوخة أو غثيان من جراء اهتزاز السيارة أو رائحة البنزين المنبعث منها.
وعودا إلى البيت لتناول طعام غداء العيد ، الذي كان في الغالب ضلعه خارووف محشية ، أو دجاجا محشيا فمثل هذه الألوان ما كانت تطبخ عادة إلا في الأعياد والناسبات البهيجة.
انقضى اليوم الأول من أيام العيد ، وحل اليوم الثاني ، الأطفال لا يخرجون من البيت بانتظار أهل أمهاتهم الذين اعتادوا أن يحظروا في اليوم الثاني من أيام العيد لزيارة(الولايا ) من أقربائهم وتقديم العيدية لهن ولأطفالهن . لقد كان لوالدتي الكثير من الأقارب –إخوانها ، وأخوالها ، وأعمامها ، وأبناء عمومتها – ويحضرون جماعة واحدة ويكون والدي بانتظارهم وكذلك الوالدة وقد ارتدت ملابسها المحتشمة ، فتقبل أيدي الكبار منهم ويهنئونها بالعيد ، أما نحن الصغار فنقبل أيدي الجميع ويمنحنا كل واحد منهم ما تجود به نفسه من عيديه ، نسارع في دسها في جيوبنا ونحن فرحون والنقود تخشخش في جيوبنا ، وكل سنة وانتم سالمون.
وبعد تقديم المعمول والقهوة و الاراجيل والسجاير للزوار ، ينهض القوم مستأذنين في الانصراف ، فتقف والدتي لوداعهم ، وعند خروجهم يضع كل منهم في يدها ما خصصه من عيديه ،ويرافقهم الوالد مشيعا حتى باب الدار.
و لقد أحزنني انقطاع هذه الزيارات بع وفاة الوالدة، ولكنني استعضت عنها بالذهاب إلى دور الأخوال وبعض أقاربها لأعيد عليهم، وكانوا يمنحونني ما اعتادوا منحه من عيديه في حياة الوالدة.في ثاني أيام العيد تبهجنا الجيوب العامرة بالعيديات فإلى ساحات العيد ثانية والى المزيد من المراجيح والمأكولات وركوب السيارة حول وادي التفاح، حتى ننفق كل ما في جعبتنا.
وفي اليوم الثالث وقد أصبحنا خالي الوفاض من النقود فإننا نلوذ بالأب والأعمام نطالبهم بدفع القسط الأخير من عيديتهم لنا ،وينفض العيد،يتبعه حماره،وكل عام وانتم بخير.
ما سبق ذكره ينطبق على العيدين الصغير والكبير،على حد سواء ، إلا أن العيد الكبير يتميز بالضحية التي تذبح في صبيحة أول أيام العيد،وقد كنا نلهو بالخروف قبل ذبحه،ونحزن عندما يأتي السلاخ ليذبحه على مرأى أعيننا ،ونراقب عملية الذبح والسلخ وإفراغ الأحشاء مأخوذين مبهورين ولا نلبث أن يداخلنا السرور عندما يناولنا السلاخ عند تقطيع الخروف بعضا من أحشائه،كلية أو خصية أو جزءا من المعلاق.
|
||||
|